الرّاعي: لبنان بحاجة إلى الجلوس عند "قدميّ الحقّ" والعودة إلى الجوهر
الرّاعي الّذي ترأّس قدّاس الأحد في الدّيمان، ألقى عظته بعنوان: "مرتا إنّك تهتمّين بأمور كثيرة والمطلوب واحد اختارته مريم" (لو 10: 42)، وقال:
"1. مرتا تنهمك بشأن الضّيافة ليسوع، فيما أختها مريم جلست عند قدميه تسمع كلامه. ولمّا أتت تشتكِ أختها لتساعدها، أجابها الرّبّ يسوع: "مرتا، مرتا، إنّك تهتمّين بأمور كثيرة فيما المطلوب واحد، وهو النّصيب الأفضل الّذي اختارته مريم" (لو 10: 42).
ينطوي هذا الحدث على بعدين أساسيّين: الأوّل، أهمّيّة الإصغاء إلى كلمة الله، الّذي اختارته مريم. والثّاني، قيمة الخدمة الّتي انهمكت بها مرتا. لم ينتقد الرّبّ يسوع موقف مرتا، وانهماكها في إعداد الطّعام المادّيّ له. لكنّه أراد أن يقول لها: عنده طعام آخر روحيّ، له الأولويّة هذا الطّعام اختارته مريم، وذكّر به مرتا. ولقد ركّز يسوع أكثر من مرّة على المأكل والمشرب الأفضل الّذي يحمله للعالم: فللمرأة السّامريّة قال إنّه يحمل ماء، من يشرب منه، لن يعطش أبدًا، بل يجري منه ماء الحياة، وهذا الماء الرّوحيّ هو الرّوح القدس. وفي كفرناحوم قال: "لا تعملوا للقوت الفاني، بل اعملوا للقوت الباقي للحياة الأبديّة". هذا القوت يعطيه ابن الإنسان. وأضاف: "أنا هو الخبز الحيّ النّازل من السّماء. من يأكل منه يحيا إلى الأبد. والخبز الّذي أعطيه أنا هو جسدي أبذله من أجل حياة العالم" (يو 6: 51).
2. يسعدني أن أرحبّ بكم جميعًا للمشاركة في هذه اللّيتورجيا الإلهيّة، الّتي نحن فيها مدعوّون للجلوس إلى مائدة الكلمة الإلهيّة، وإلى مائدة جسد الرّبّ يسوع ودمه. هذه المائدة المزدوجة هي الطّعام الرّوحيّ الّذي يحمله الرّبّ يسوع لحياة العالم.
3.في اللّيتورجيا الإلهيّة نعيش خبرة مريم الجالسة عند قدمي يسوع تسمع كلامه. القدّاس يذكّرنا أنّ حياتنا الأساسيّة ليست بكثرة انشغالاتنا، بل بالعيش في حضرة الله. ولذلك نضع جانبًا اهتماماتنا الدّنيويّة وهمومنا اليوميّة، لننفتح على كلمة الرّبّ ونتّحد به في جسده ودمه. هنا نتعلّم أنّ الإصغاء لله هو أساس كلّ خدمة وعمل. الذّبيحة الإلهيّة تعيد ترتيب أولويّاتنا: الله أوّلًا، منه ننطلق، وإليه نعود.
4. الكلام الإلهيّ يقود كلّ مؤمن ومؤمنة إلى معرفة الله، الّذي هو نورنا في الطّريق (مز 119: 185)، لكي "لا نزلّ ونتيه" (مز 121: 3). إنّ كلمة الله هي روح الحياة المسيحيّة وأساسها. فهي تعطي معنى للحضور المسيحيّ في الشّرق الأوسط، وتنعشه، فلا يكون حضورنا مجرّد انتماء اجتماعيّ أو إنجازات اقتصاديّة، بل ثقافة حياة وحضارة محبّة. والكلمة تذكّرنا بضرورة التزامنا في العالم، والعمل من أجل العدالة والمصالحة والسّلام، ومن أجل المساهمة في جعل المجتمع أكثر إنسانيّة.
5. إنّ سماع كلام الله في الإنجيل، والعمل بموجبه، واجب حياتيّ لكلّ إنسان، وبخاصّة لكلّ مسؤول سياسيّ وإداريّ في الشّأن العامّ. إنّ المسؤولين المدنيّين مدعوّون للعودة إلى "واحد" أساس، هو الالتزام والعمل في سبيل:
- دولة تُبنى على الحقّ والعدالة.
- ومواطن يحفظ أرضه وهويّته.
- ومسؤول يضع الخير العامّ قبل المصالح الخاصّة.
- وبناء وحدة وطنيّة داخليّة تعلو فوق الانقسامات، والصّراع على النّفوذ.
6. اللّبنانيّون بحاجة إلى الجلوس عند "قدميّ الحقّ"، والإصغاء إلى رسالتهم التّاريخيّة. هذه الرّسالة موجّهة اليوم إلى الجميع:
- إلى المسؤولين السّياسيّين: أن يضعوا مصلحة الوطن والشّعب كلّه فوق كلّ اعتبار.
- إلى الاقتصاديّين وأصحاب القرار: أن يعيدوا بناء الثّقة بالاقتصاد الوطنيّ.
- إلى المواطنين: أن يصمدوا في أرضهم، أساس هويّتهم وتاريخهم.
- إلى المربّين والرّوحيّين: أن يزرعوا الرّجاء في القلوب والقيم في الرّؤوس.
- إلى الشّباب: أن لا يسمحوا لليأس أن يقتلع أحلامهم، وان يقطع جذورهم.
7. من إنجيل اليوم ننتقل إلى واقع وطننا لبنان. بين مرتا ومريم نجد صورة لوطن يعيش صراعًا بين كثرة الهموم والاضطرابات من جهة، والحاجة إلى ثبات على الأساسيّات من جهة أخرى. لبنان اليوم يشبه بيت عنيا: "بيتًا مفتوحًا لله، ولكن مثقلًا بالانشغالات اليوميّة، منغمسًا في الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسّياسيّة.
وطننا بحاجة إلى "مريم" تجلس عند قدميّ الله لتسمع صوته، وإلى "مرتا" تخدم بصدق وإخلاص، أيّ إلى قيادة روحيّة تذكّر بالأساسيّات، وإلى مسؤولين يعملون بضمير حيّ. لكنّ العمل بدون إصغاء لكلام الله يتحوّل إلى اضطراب، والإصغاء بدون عمل يتحوّل إلى تقاعس. نحن بحاجة إلى الإثنين معًا.
لن يقوم لبنان بالانشغال بالصّغائر، بل بالعودة إلى الجوهر، أعني: العيش المشترك، والكرامة الإنسانيّة، والحرّيّة، والمساواة تحت سقف القانون. هذا هو "النّصيب الأفضل" الّذي لا يجوز أن يُنتزع منّا، والذي إذا فقدناه لن ينفعنا أيّ شيء آخر.
8. فلنصلِّ، أيّها الإخوة والأخوات، من أجل وطننا لبنان لكي يلهم الله أبناءه، قادةً وشعبًا أن يحسنوا التّوازن بين الإصغاء لكلام الله والعمل بموجبه، وبين التّأمّل والخدمة. ولنصلِّ من أجل أن يتحوّل قلقنا واضطرابنا إلى ثقة ورجاء فنكتشف من جديد أنّ "الحاجة إلى واحد"، هو الله الّذي وحده يعيد إلينا سلامنا المفقود. له المجد والتّسبيح الآن وإلى الأبد، آمين."