لبنان
10 آب 2019, 05:00

الرّاعي: نلتمس نعمة الاستمرار في طبيعتنا الأساسيّة كزرع جيّد في حقل هذا الوطن

ترأّس البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، أمس الجمعة، القدّاس الإلهيّ، من مزار مار شربل، على تلّة الصّليب، في فاريا، وألقى عظةً تحت عنوان "الزّرع الجيّد هم أبناء الملكوت" (متى 13 : 38)، جاء فيها:

"القدّيس شربل زرع جيّد زرعه الله في حقل بقاعكفرا، وحقل الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة، وحقل كنيستنا، بل في أرض لبنان؛ فنما وتحصّن من زؤان الشّرّ والأشرار، حتى إنّه "يتلألأ إلى الأبد كالشّمس في ملكوت الآب" (متى 13 : 43).

يُسعدنا أن نحتفل اليوم معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، ونحن نُحيي ذكرى القدّيس شربل ونستشفعه لكي نعرف مثله أن نحافظ على طبيعتنا الأساسيّة، كزرع جيّد زرعه الله في حقل هذا العالم وفي أرض لبنان، ونحميه من زؤان الشّرّ والأشرار.

ويُطيب لي أن أُحيّيكم جميعًا، وبخاصّة رئيس المجلس البلدي عزيزنا المهندس ميشال سلامه وأعضاء المجلس وعائلته وشقيقه وأُسرته، أشكره على الكلمة الافتتاحيّة وعلى شهادة الإيمان بما يصنع مار شربل بالمؤمنين. هم الذين شاؤوا رفع تمثال القدّيس شربل على هذه القُمّة الجميلة جبل الصّليب من فاريا العزيزة، قرب الصّليب المُرتفع عليه والمُشعّ بنوره على المنطقة.

كان المثل الإنجيليّ الذي ضربه الرّبّ يسوع لتلاميذه وفي إنجيل اليوم يشرحه هو إفهامنا سرّ ملكوت الله الذي يبدأ على الأرض بالكنيسة، جماعة المؤمنين المُنظّمة تراتبيًّا، ويكتمل في السّماء عند نهاية العالم.

وأراد الرّبّ يسوع من خلال هذا المثل إفهامنا سرّ الإنسان الذي هو زرع جيّد من طبعه يزرعه الله في حقل هذا العالم ليعطي ثمار الخير في العائلة والمجتمع والكنيسة والدّولة.

لكنّ الشّيطان عدوّ الله والإنسان، والأشرار أتباعه يزرعون بقرب الإنسان زؤان الشّرّ على أنواعه من أجل تبديل طبيعته الحسنة أساسًا لأنّه مخلوق على صورة الله.

كلّ إنسان من أيّ دين أو عرق أو لون كلّ إنسان مخلوق زرع جيّد على صورة الله. وهناك مع الأسف كثيرون سقطوا ويسقطون في هبائل هؤلاء الأشرار فتتبدّل حياتهم، ويكثر الشّرّ وفاعلوه وتكثر الشّكوك في المجتمعات البشريّة.

أمّا الرّبّ يسوع، إبن الله المُتجسّد، بتجسّده والفداء اتّحد بكلّ إنسان، وجعله طريقه لكي يُخلّصه بكلامه وبنعمته ويحميه من الخطيئة والشّرّ. وعهد بالإنسان هذا إلى الكنيسة، فأصبحت بدورها معنيّة به، أيًّا يكن لونه ودينه وثقافته ورأيه.

هذا الإنسان، ليس بالمُطلق، إنّما هذا الإنسان الذي أمامنا ونراه ونتعامل معه كلّ يوم، والذي هو طريق الكنيسة، ينبغي أن يكون أيضًا هو إيّاه طريق الدّولة وطريق العمل السّياسيّ، وأن يكون المحور لأيّ مشروع اجتماعيّ وسياسيّ.

 

هذا الإنسان – الطّريق رسمه المسيح الإله نفسه، وجعل من ذاته الطّريق إلى كلّ إنسان عبر التّجسّد والفداء. هذا هو المعنى اللّاهوتيّ لارتفاع صليب الفداء على هذا الجبل على هذه القمّة من فاريّا العزيزة، وهذا هو المعنى اللّاهوتيّ لارتفاع تمثال القدّيس شربل الإنسان المُفتدى بإمتياز والمُتلألأ بنعمة الخلاص في السّماء . وأنتم تشاؤون أن تجعلوا من هذا الجبل موقع إشعاع روحيّ، كما رأينا في الأبنية الجديدة وتطلُّعات أخرى. أخذ الله بيدكم وحقّق أُمنياتكم وكافأكم على كلّ شيء .

 

إنطلاقًا من هذا الرّابط اللاهوتيّ بين المسيح والإنسان، وبين الكنيسة وبين الإنسان عينه، نقول مع القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني: "إنّ كلّ ما يمسّ الإنسان في كرامته وسلامة حياته وحقوقه، إنّما يمسُّ الكنيسة في صميم فؤادها وإيمانها بابن الله المُتجسّد. فلا يحقُّ لها، يواصل قداسة البابا يوحنّا بولس الثّاني، أن تصمُت عن الظّالم، بل عليها أن تتسلّح بالجرأة، وتُعطي صوتًا لمن لا صوت له، وتُعيد صرخة الإنجيل في الدّفاع عن الفقراء والمظلومين والمُهدّدين والمُحتقرين والمستضعفين والمحرومين من حقوقهم الأساسيّة، ولا يستطيع أحد أن يوقفها عن ذلك" (فادي الإنسان 13؛ إنجيل الحياة ،5).

وما القول عن زؤان النّزاعات والخلافات والعداوات المُستجرية، والتي تُباعد بين القلوب، وتُعطّل عمل المؤسّسات الدّستوريّة والعامّة وتُسيّس نشاطاتها وتُمذهبها، والكلّ على حساب الشّعب المقهور.

فإنّنا نرجو بإلحاح القيادات وذوي الإرادات الصّالحة، ندعوهم إلى جرأة المصالحة عن طريق المصارحة والصّالح العام. ليست الرّجولة في بثّ زؤان الخلافات والإساءات، بل الرّجولة في زرع حبّات التّفاهم والتّلاقي والحوار البنّاء، لقد انتهت الشّريعة القديمة "العين بالعين، والسّن بالسّن"، وبدأت مع المسيح منذ ألفين سنة شريعة المغفرة ومبادلة الشّرّ بالخير، إلى هذه الثّقافة الإنجيليّة نحن ننتمي، ونحن بحاجة اليوم إلى أكثر يوم مضى. 

 

من هذا المكان المُقدّس، من على أقدام صليب الفداء، وفي ظلّ تمثال القدّيس شربل، نرفع أفكارنا وعقولنا وقلوبنا إلى العُلى، مُلتمسين نعمة الاستمرار في طبيعتنا الأساسيّة كزرع جيّد في حقل هذا الوطن ونواصل زرع حبّات قمح جيّدةً في مجتمعنا وعائلاتنا وكنيستنا والوطن بنعمة الثّالوث القدّوس، الآب والإبن والرّوح والقُدس، له المجد والتّسبيح الآن وإلى الأبد، آمين."