سوريا
15 كانون الثاني 2024, 13:30

العبسيّ: مطرحنا الحقيقيّ هو أن نكون في حضرة الله

تيلي لوميار/ نورسات
في كاتدرائيّة سيّدة النّياح- حارة الزّيتون، احتفل بطريرك أنطاكية سائر المشرق للرّوم الملكيّين الكاثوليك يوسف العبسيّ باللّيتورجيا الإلهيّة المقدّسة في أحد الفرّيسيّ والعشّار، مفتتحًا مرحلة التّهيئة للصّوم المبارك بإنجيل الفرّيسيّ والعشّار (لو 18: 9-14).

وعلى ضوئه ألقى العبسيّ عظة قال فيها: "نبتدىء اليوم، في كنيستنا الرّوميّة الملكيّة الكاثوليكيّة، مرحلة التّهيئة لزمن الصّوم المبارك، زمنِ الملكوت والفردوس، كما تسمّيه الكنيسة.  

تدوم مرحلة التّهيئة للصّوم ثلاثة أسابيع نستهلّها اليوم بالإنجيل الّذي تلي على مسامعنا ويسمّى إنجيل "الفرّيسيّ والعشّار". تتلو الكنيسة هذا الإنجيل في مطلع مرحلة التّهيئة لزمن الصّوم لأنّه يتكلّم عن التّواضع، لتعلّمنا أنّ التّواضع هو أوّل ما يُطلب من المسيحيّ للشّروع في زمن الصّوم والدّخول إلى الملكوت، وكأنّها تصدّي لقول المسيح: "إن لم ترجعوا وتصيروا كالأطفال فلن تدخلوا ملكوت السّماوات". ويقول الإنجيليّ لوقا الّذي أورد مثل الفرّيسيّ والعشّار إنّ المسيح "ضرب هذا المثل لقوم مقتنعين في أنفسهم أنّهم أبرار ويحتقرون الآخرين" (لوقا 18: 9)، تاركًا لنا أن نكتشف من هم هؤلاء القوم، وأن نأخذ العبرة لأنفسنا.

1- رجلان صعدا إلى الهيكل ليصلّيا  

رجلان صعدا إلى الهيكل لكي يصلّيا، الأوّل فرّيسيّ والثّاني عشّار، أيّ الأوّل رجل دين، رجل يعتقد في نفسه أنّه مستقيم صالح تقيّ يتمّم الشّريعة، والثّاني جابٍ للضّرائب، رجل يرى نفسه خاطئًا، لصًّا وسارقًا، يخالف الشّريعة.

أمّا الأوّل، الفرّيسيّ، فيقول عنه لوقا إنّه "انتصب"، أيّ وقف أمام الله شامخًا برأسه، ليدلّ على كبريائه وعجرفته وقلّة احترامه لله تعالى، فكأنّه، وهو في حضرة الله، لم تأسره عظمته ولا جلال قداسته، وكأنّه، وهو قائم في بيت الله، لم يرَ الله بل رأى ذاته وأضحى همّه أن يراه النّاس. لذلك بات من أولئك المرائين الّذين حذّرنا المسيح أن نتشبّه بهم، "الّذين، كما يقول المسيح، يحبّون أن يصلّوا قيامًا (أيّ وقوفًا) في المجامع وفي ملتقيات الطّرق بكي يظهروا للنّاس" (متّى 6: 5)، تمامًا كما فعل هذا الفرّيسيّ.

أمّا العشّار الخاطىء فكان في الزّاوية وفي الخلف مطرقًا برأسه إلى الأرض خجلاً منكسرًا منسحقًا، لأنّه كان يشعر، وهو في حضرة الله وفي بيته، بعظمته تعالى وقداسته. ويذكّرنا شعوره بما شعر به قائد المئة حين قال ليسوع: "يا ربّ إنّي لست مستحقًّا أن تدخل بيتي، فقل فقط كلمة فيبرأ غلامي".

إنّ موقف العشّار هو موقف المحبّ الّذي يشعر بأنّه مهما فعل فهو دون أن يفي المحبوب ما يجب. ففي الحبّ نحن دومًا فقراء مقصّرون، ولا ينبغي بالتّالي أن نربّح من نحبّ منّيّة. وهذا هو الإقرار بالخطايا. ليس الإقرار بالخطايا شعورًا بالذّنب بمعناه السّلبيّ، أيّ الشّعورَ الّذي يضع الإنسان في حالة من اليأس والذّلّ والتّعب، بل الإقرار بالخطايا هو الشّعور الّذي، في هدوء ووداعة ورجاء، يريد ويسعى أن يرتفع إلى مستوى المطلوب منه في علاقته مع من يحبّ، وهنا مع الله تعالى.  

2- أصوم في الأسبوع مرّتين

ثمّ إنّ الفرّيسيّ، يردف لوقا، راح يمتدح نفسه ويفتخر أمام الله بأنّه يصوم مرّتين في الأسبوع، مثل بعض اليهود الّذين كانوا يصومون يومي الاثنين والخميس، ويتصدّق. راح يمتدح نفسه خصوصًا في احتقار منه للعشّار بقوله إنّي لست مثل هذا العشّار وأمثاله الخطأة، بحيث ينطبق عليه قول المسيح: "متى صنعت صدقة فلا تبوّق بها قدّامك كما يفعل المراؤون في المجامع والشّوارع لكي يمجّدهم النّاس" (متّى 6: 1-2)؛ "ومتى صمتم فلا تكونوا معبّسين كالمرائين فإنّهم ينكّرون وجوههم لكي يظهروا للنّاس صائمين" (متّى 6: 16). كان هذا الفرّيسيّ "يمنّن" الله "يربّحه جميلاً"، فيما كان العشّار في زاويته يقرع صدره قائلاً "اللّهمّ اغفر لي أنا الخاطىء"، مقرًّا بخطاياه وطالبًا الغفران والرّحمة.

3- إنّ هذا لم يبرّر      

وينهي لوقا المثل بقول المسيح إنّ الفرّيسيّ لم يبرَّر، أيّ لم يُغفَر له، وأمّا العشّار فقد بُرِّر وغُفِر له. ولماذا؟ ما هي مشكلته؟ وهذا السّؤال هو لبّ الموضوع وأمثولة المثل: لماذا لم يُبرَّر الفرّيسيّ بالرّغم من أنّه يصلّي ويصوم ويتصدّق؟ والجواب هو أنّه في أعماله هذه الّتي  ظاهرها حسن لم يستطع أن يرى الله، لم يستطع أن يكتشف الله، لم يستطع أن يقيم صلة بينه وبين الله، لم يستطع أن يعرف الله، لأنّه لم يأتِ إلى الهيكل ليسمع كلام الله بل ليكلّم الله، أو بالحريّ ليكلّم نفسه، لم يأتِ ليمدح الله بل ليمتدح  نفسه.

كان الفرّيسيّ، وهو واقف بين يدي الله، لا يرى إلّا نفسه وحسب، وكان يقيس أعماله ويزنها بمقياسه وميزانه هو، ولم يكن يقيس أعماله ويزنها بالنّظر إلى أعمال الله الّذي قال لنا: "تعلّموا منّي فإنّي وديع ومتواضع القلب"، وقال أيضًا: "كونوا قدّيسين كما أنّي أنا قدّوس".

إنّ التّواضع هو أن يعرف المرء موضعه، مكانه، مطرحه الحقيقيّ. ومطرحنا الحقيقيّ هو أن نكون في حضرة الله، خاشعين صامتين منصتين، معترفين بضعفنا وحاجتنا إلى الله، وطالبين الرّحمة والغفران. أجل، إنّ الإنسان لا يعرف موضعه إلّا في حضرة الله، ولا يرى حقيقته إلّا على ضوء الله، ولا يدرك قياسه إلّا إذا قارنه بقياس الله.

لذلك، فإنّنا، نحن المسيحيّين، لا نأخذ أمثلة لنا ونماذج وقدوات من أنفسنا أو من غيرنا من النّاس، كما فعل الفرّيسيّ، بل من المسيح، فهو قدوتنا ومثالنا، نشعر أمامه بأنّنا صغار خطأة، ضعفاء في حاجة إلى من يرعانا ويغفر لنا ويحبّنا، فنحاول أن يبلغ إلى ملء قامته، كما قال بولس الرّسول.

5- أين نحن؟

ها نحن اليوم أتينا إلى الكنيسة لنصلّي، وأمامنا نموذجان من المصلّين، الفرّيسيّ المتكبّر الّذي لا يرى إلّا ذاته، والعشّار المتواضع الّذي لا يرى إلّا الله، ولا يرى ذاته إلّا في الله. فأيّهما نتّخذ لنا مثالاً؟ جئنا نصلّي، ولا شكّ، ولكن كيف ولماذا نصلّي؟ نحن الآن في بيت الله وحضرته، فليدخل كلّ منّا إلى قرارة نفسه فإنّ الجواب فيها."