المطران منير خيرالله في رسالة الميلاد: ميلاد المسيح... بين معاناة اللّبنانيين ونكبة الفلسطينيّين
"كلّ ما يحدث حولنا اليوم يعيدنا إلى أكثر من ألفي سنة إلى الوراء، ويدعونا إلى التّأمّل وفحص الضّمير واتّخاذ العبرة.
يخبرنا لوقا ومتّى في الإنجيل أنّه بينما كان أوغسطوس قيصر أمبراطورًا في روما، وقيرينيوس واليًا على سوريا، وهيرودس رئيس الرّبع ملكًا على اليهوديّة، وكان الشّعب يرزح تحت نير احتلال الإمبراطوريّة الرّومانيّة وينتظر ولادة يسوع المخلّص ابن الله ملكًا ليحرّرهم، "إذا مجوس قَدِموا أورشليم من المشرق يسألون عن ملك اليهود الّذي وُلد في بيت لحم اليهوديّة ليسجدوا له وقد تقدّمهم النّجم في المشرق".
"اضطرب هيرودس واضطربت معه أورشليم كلّها. فجمع عظماء الكهنة والكتبة واستخبرهم أين يولد يسوع. ودعا المجوس سرًّا وتحقّق منهم في أيّ وقت ظهر النّجم". دعاهم وفاوض معهم "سرًّا" لا في العلن، وكان يخطّط كيف يقتل الطّفل يسوع "ملك اليهود"، لخوفه من أن ينافسه يومًا على العرش. إنّها المفاوضات السّرّيّة.
كلّ ذلك حدث في ظلام اللّيل، وفي السّرّ، لكي لا يفضح النّورُ أعمالهم ومخطّطاتهم.
لكن في اللّيل أيضًا سطع النّور، نورُ المسيح.
وفي اللّيل أيضًا وصل يوسف وخطّيبته مريم وهي حبلى وعلى وشك الولادة إلى بيت لحم بعد مسيرة طويلة من "مدينة النّاصرة في الجليل إلى مدينة داود، بيت لحم، في اليهوديّة". فلم يجدا لهما مكانًا حتّى "في بيت الضّيافة. فولدت مريم ابنها يسوع وأضجعته في مذود".
إبن الله المخلّص الموعود وُلد إنسانًا في حالة يرثى لها. ولم يكن له أحد لا من عائلته ولا من أقاربه ولا من شعبه الّذي كان ينتظره. ولم يعترف به أحد، سوى هؤلاء الآتين من خارج السّلطة والاصطفاف السّياسيّ والحزبيّ. إنّهم الرّعاة والمجوس.
كان الرّعاة يبيتون في البرّيّة ويتناوبون السّهر في اللّيل على رعيّتهم، فحضرهم "ملاك الرّبّ وبشّرهم بفرح عظيم يكون فرح الشّعب كلّه، بولادة المخلّص وهو المسيح الرّبّ في مدينة داود"، وأعطاهم علامةً في الطّفل الموضوع في المذود. جاءوا مسرعين وتحقّقوا من علامة الطّفل "ورجعوا وهم يمجّدون الله ويسبّحونه على كلّ ما سمعوا ورأوا".
والمجوس، تابعوا سيرهم، يتقدّمهم النّجم الّذي رأوه في المشرق، ففرحوا فرحًا عظيمًا، حتّى بلغوا المكان الّذي فيه الطّفل، فجثوا له ساجدين وقدّموا هداياهم "ذهبًا وبخورًا ومُرًّا".
وهيرودس الخائف على عرشه، "استشاط غضبًا وقرّر الانتقام وأرسل يقتل كلّ طفل في بيت لحم وأراضيها من ابن سنتين فما دون". فكان الأطفال الأبرياء هم الّذين يدفعون الثّمن الغالي لقرارات الحكّام السّرّيّة.
أمّا يوسف ومريم فأوصى إليهما ملاك الرّبّ في الحلم أن يهربا بالطّفل إلى مصر "ليلاً" إلى أن يموت هيرودس. وهناك عاشوا مرارة التّهجير والغربة والعزلة.
في ذكرى ولادتك يا يسوع سنة 2023، لا تزال الأرض الّتي اخترت أن تولد فيها تعيش المعاناة الّتي عرفتها، والشّعب الّذي يعيش عليها لا يزال يختبر المعاناة نفسها:
الشّعب منقسم على نفسه. قسم مع الحكّام والولاة، وقسم ضدّ الاحتلال، وقسم مع رؤساء الكهنة والفرّيسيّين والكتبة ومن يمثّلهم، وقسم ضدّ هؤلاء جميعًا، يقاتلون بعضهم بعضًا بروح الحقد والانتقام ولا يريدون السّلام، والأطفال الأبرياء يدفعون الثّمن باستشهادهم. ولا تزال القوى العظمى تُجري المفاوضات سرًّا، لتتقاسم بلدان العالم بالتّعدّي على حقوق شعوبها، ومنها حقّ تقرير المصير. وكلّ ذلك باسم الدّيمقراطيّة والتّنمية، ولا تزال "قساوة القلب الّتي أصابت قسمًا من بني إسرائيل"، كما يقول بولس الرّسول (روما 11/25)، على حالها، ولا يزال بنو إسرائيل يردّدون مع آشعيا: "من صهيون يأتي المخلّص ويزيل الكفر عن بني يعقوب، ويكون هذا عهدي لهم حين أزيلُ خطاياهم" (59/20-21). لكنّهم لا يريدون أن يعترفوا بخطاياهم. ويقول لهم يسوع من جديد: "إن لم تؤمنوا بأنّي أنا هو تموتون بخطاياكم" (يوحنّا 8/24).
في ظلمة ليل الحرب والبغض والانتقام والدّمار والقتل لدى شعبك، يا يسوع، على الأرض الّتي قدّستها، من يبشّر بالفرح العظيم بولادتك مخلِّصًا ونورًا للعالم ومَلِكًا للسّلام؟
إنّها أرضك يا يسوع. إنّه شعبك الّذي أردت أن تتّخذ منه نسبًا وسلالةً وعائلةً. فهل تُنعِمُ علينا في ميلادك الـ2023 بأن نكون مبشّرين بالفرح ورسلَ سلام؟
يحضُرُنا اليوم ملاك الرّبّ، ويقول لنا نحن الرّعاة: لا تخافوا! وُلد لكم اليوم مخلّص. إذهبوا إلى الطّفل المضجع بين الأنقاض في غزّة، وهي علامة لكم، كي تشاهدوه وتؤمنوا، وتعودوا إلى شعبكم لتخبروه أنّ يسوع ابن الله المولود إنسانًا هو المخلّص الوحيد، وهو النّور الّذي يسطع في ظلمة العالم، وهو السّلام المنشود!
عودوا بفرح عظيم وأنتم تسبّحون الله وتمجّدونه على كلّ ما سمعتم ورأيتم.
قولوا لشبابنا إنّهم رسل الرّجاء، لأنّ يسوع يولد فيهم ويحثّهم على متابعة نضالهم من أجل المصالحة والعدالة والسّلام، ويدعوهم إلى تخطّي كلّ الحواجز البشريّة، وهم خارج السّلطة وخارجون عليها وعلى كلّ الاصطفافات الحزبيّة والطّائفيّة والفئويّة، للعبور إلى الآخر، حتّى ولو بدا عدّوًا، وإقامة حوار صادق وصريح معه لبناء البشريّة الجديدة، يكون يسوعُ ابنُ الله البكرَ فيها.
نعم، نحن الرّعاة، نتحمّل المسؤوليّة الأولى، ولكنّنا نتشارك تحمّل المسؤوليّة، ونحن معًا شعب الله في مسيرة سينودسيّة. لذا نطلب منك، يا يسوع، بولادتك اليوم، أن تحوّل قلوبنا القاسية المتحجّرة إلى قلوب تنبض بالمحبّة، وأن تزيل خطايانا المتكاثرة وتشجّعنا على القيام بتوبة صادقة، فنعمل على مصالحة شاملة، ونشهد أنّك بولادتك صالحتَ الله مع الإنسان والإنسان مع الله.
رجاؤنا يا يسوع أن يكون ميلادك نورًا يسطع في ظلمة أيّامنا!".