بأيّ مجد يطلب يسوع أن يتمجّد؟
ويتابع بيتسابالا قائلاً بحسب موقع البطريركيّة الرّسميّ: "يوكل يسوع إلى الآب بأعزّ ما لديه: يوكل، في المقام الأوّل، رسالته بين النّاس، الرّسالة الّتي هي الآن على وشك اجتياز مأساة الموت والفشل، كي يتمّ كلّ شيء على الوجه المطلوب، فيتمكّن يسوع من إعطاء الحياة للجميع.
ومن ثمّ، يوكل يسوع تلاميذه وأصدقاءه، أولئك الّذين سمعوه وقبلوه.
ولا يُصلّي يسوع فقط من أجلهم، بل يُصلّي أيضًا من أجل جميع الآخرين، الّذين سوف يؤمنون به في المستقبل، وسيقبلون منه هبة الحياة الجديدة.
لقد ائتمنه الآب على جميع أولئك الّذين– "كانوا لك فوهبتهم لي" (يوحنّا ١٧: ٦)– كي يملأهم هو بالحياة، ويقودهم إلى المعرفة الكاملة لوجه الرّبّ.
والآن، وبينما يوشك يسوع على إتمام هذه الرّسالة، يمكنه إعادة الكلّ إلى الآب الّذي يأتي منه كلّ شيء: وإنّه متروك للآب، الآن، الحفاظ على هذا العمل.
تبدأ صلاة يسوع بطلب قد يبدو غريبًا لنا: "يا أبت، مجّد ابنك ليُمجّدك ابنك" (يوحنّا ١٧: ١)، ويتكرّرالطّلب مرّات عديدة في هذا المقطع الإنجيليّ.
علينا أن نفهم ما يطلبه يسوع، وبأيّ مجد يطلب أن يتمجّد: حيث أنّه ليس مجدًا ما كما نفهمه نحن.
نجد في المقطع الإنجيليّ (٢٠: ٢٠–٢٨) من بشارة متّى، والمقطع الإنجيليّ (١٠: ٣٥–٤٥) من بشارة مرقس حدثًا من حياة يسوع والتّلاميذ قد يُساعد على الفهم والتّعمّق.
يطلب يوحنّا ويعقوب من يسوع أن يجلسا، أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره في ملكوته: يعكس طلبهما هذا فكرتهما عن مجد بشريّ ودنيويّ، فكرة يترادف المجد بموجبها مع السّلطة والشّهرة والعظمة. ويستغلّ يسوع المناسبة بالفعل كي يقول أنّ هذا ليس مجدًا حقيقيًّا. وسوف يقول لتلاميذه مرّات عديدة، أنّهم سوف يتوهون بين الحين والآخر في سؤال أنفسهم عمّن سيكون الأعظم بينهم (لوقا ٢٢: ٢٤)، بينما المجد الحقيقيّ هو مجد من يخدم، ومن يأخذ المكان الأخير، ومن يُقدّم حياته دون الاحتفاظ بأيّ شيء لنفسه.
لماذا؟ لأنّ المجد ليس سوى كلّ ما يُظهره الرّبّ للبشر. وإله يسوع قد اختار أن يُظهر نفسه في كلّ لفتة حبّ متواضعة، لأنّه هو نفسه محبّة وتواضع.
وبالتّالي لن يُظهر نفسه في الغنى، وفي السّلطة وفي السّيطرة، بل في كلّ فعل ينمّ عن اتّضاع، وفي كلّ مبادرة تتّسم بالمجّانيّة.
وبالتّالي، لا يمكننا الحصول بمفردنا على المجد، من خلال تكديس الخيرات والانتصارات. نجد يسوع، في بشارة يوحنّا، قاسيًا جدًّا مع من يرفض تصديقه، ومع من لا يريد "أن يُقبل إليه كي تكون له الحياة" (يوحنّا ٥: ٤٠): "أنا لا أتلقّى المجد من عند النّاس… كيف لكم أن تُؤمنوا وأنتم تتلقّون المجد بعضكم من بعض، وأمّا المجد الّذي يأتي من الله وحده فلا تطلبون" (يوحنّا ٥: ٤١ و٤٤). هم أيضًا، مثل يعقوب ويوحنّا، يبحثون عن المجد، وهم أيضًا يبحثون عن المجد الأرضيّ، "بعضهم من بعض". وهذا البحث المغلوط يُعيق تصديقه، ويُعيق قبول المجد الحقيقيّ من الرّبّ، الّذي يتجلّى في أعمال المسيح، وفي تلك الغرابة الّتي، بموجبها، يكمن المجد في فقدان كلّ شيء.
وهكذا، فإنّ المجد البشريّ يُفرّق ويُبعد عن الرّبّ، ويُفرّق بيننا ويُبعدنا عن بعضنا أيضًا: في رواية يعقوب ويوحنّا، كانت نتيجة طلبهما الخلاف مع التّلاميذ الآخرين، المتعثّرين والمصدومين.
بينما نتيجة المجد الّذي يطلبه يسوع من الآب هي وحدة التّلاميذ، لأنّ مجد المسيح يبلغ تمامه، بالضّبط، في جعل تلاميذه واحدًا، كما أنّ يسوع والآب هما واحد (يوحنّا ١٧: ١١ و٢١).
والآن يسهل علينا فهم معنى هذا الطّلب الموجود في بداية صلاة يسوع الطّويلة: إنّ ما يطلبه يسوع، في هذه اللّحظة الحاسمة، هو أن يتمكّن من تمجيد الآب كلّيًّا.
وسوف يفعل هذا على الصّليب، الّذي هو أعظم التّجلّيات الإلهيّة، وهو المكان المحيّر الّذي فيه يشرق وجه الإله الحقيقيّ على أكمل وجه: نحن لا نستطيع أن نعرف الآب لو أنّ يسوع لم يُظهره في آلامه.
ما يتبقّى من هذه الصّلاة الكهنوتيّة لن يكون سوى شرح المعنى الحياتيّ لهذه الرّغبة، وشرح معاني آلام الرّبّ العظيمة. في كشفه عن الآب على الصّليب، سوف يُعطي يسوع الحياة الأبديّة للبشر (يوحنّا ١٧: ٢)، وسوف يُعطيهم إمكانيّة معرفة الرّبّ، وإمكانيّة تصديقه، وإمكانيّة اختيار الانتماء إليه.
وهكذا سوف ينعكس مجد يسوع علينا أيضًا، وسوف تكون هي الحقيقة الختاميّة لحياتنا وعظمتنا الحقيقيّة، بغضّ النّظر عن أيّ نجاح وإخفاق، وعن أيّ غنى وفقر."