العراق
02 حزيران 2021, 10:20

بعد شهر من الصّلاة والتّأمّل تتويج مريم العذراء ملكة الكون

تيلي لوميار/ نورسات
إحتفلت رهبانيّة بنات مريم الكلدانيّة يوم الإثنين بتتويج مريم العذراء ملكة الكون، مع نهاية الشّهر المريميّ، في قدّاس إلهيّ ترأّسه المطران بشّار متّي وردة، سبقته صلاة المسبحة الورديّة وتأمّل بالشّهر المبارك فطلبة العذراء مريم ورتبة التّتويج.

في ختام الاحتفال، إنطلق تطواف نحو مغارة العذراء مريم ملكة الكون في كنيسة الرّسولين بطرس وبولس حيث وُضع إكليل من الورد على تمثال العذراء مريم.

وكانت للمناسبة عظة للمطران وردة قال فيها بحسب إعلام البطريركيّة الكلدانيّة: ""مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَجْلِسَ مَعِي فِي عَرْشِي".

تحتفل الكنيسة اليوم بختام مسيرة شهرٍ من الصّلاة والتّأمّل مع أمنّا مريم، والّتي تُعلنها الكنيسة مثالَ الإيمان وشاهدة له، فقد آمنت بكلمةِ الملاك: "أن لا شيءً مُستحيلٌ على الله" (لو 1: 37)، وأعلنت استعدادها للطّاعةِ لإدراتهِ على الرُّغم من عدِم استيعابها الكامِل لدعوتها، وسعت لتمجيدِ الله في كلِّ تفاصيل حياتها، فقدّمت لنا شهادةً حيّة لمعنى ومضمون الإيمان: أن تُعلَن قداسةُ الله في حياتنا، فيُباركهُ كلُّ إنسانٍ يلتقينا، فليس المُهمّ أن يُبارِكنا الآخرون، بل الأهمّ أن يتوجّه كلّ الإكرام والتّعبّدِ إلى الله، لذا، وجّهت الخدم، وما زالت توجّهنا اليوم قائلةً: "مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ" (يو 2: 5)، فهي تعرِفه، لأنّها متحدّةٌ به منذ أن حملت به وقدّمتهُ للعالم مُخلّصًا وسارت معه الطُّرقات ووقفتَ تحت صليبهِ مُستلسمةً لمشيئة الله ومُتألّمةً معهُ، ولأنهّا بقيتَ أمينةً له ولمشيئةِ الله وهبها لنا أمًّا (يو 19: 26- 27)، وحقّقت هذه الأمومةِ من خلال التّواجد مع الرُّسل مُصلّيةً. فإعلانها ملكةً هو تكليلٌ لمسيرة الإيمان الفاعِل بالمحبّة، وهو الإكليلُ الّذي ينتظرنا جميعًا في مسيرة الإيمان هذه.

مريم لم تنفصل عن إبنها وعن الكنيسة أبدًا، ويُخطئُ مَن يقول إنَّ الله كان سيجد غير مريم إن تردّدت مريمُ في قبولِ دعوتها، أو تراجعت عن الالتزامِ به، فالعهدُ القديم يُعلّمنا صريحًا أنّ الله لم يقبل اعتراضاتِ موسى وشجّع إشعيا الخائِف من قبول دعوتهِ، وساندَ إرميا وهو يكبرُ وينمو نبيًّا، وتبِع يونان إلى ترشيش وأعادهُ ليُكمِلَ رسالتهُ إلى أهلِ نينوى. إصغاءُ مريم وطاعتها وإيمانها ومحبّتها وعنايتها بالكلمةِ، جعلها أمًّا، بل المؤمنةِ على قلبِ الله: هذه الّتي أبحثُ عنها، إنسانةٌ تُصغي وتسأل وتتقصّى وتقبلُ الدّعوة بإيمان، وتخدُم بفرحٍ، وتُعلّم البشريّة كيفُ تُنشدُ مجدَ الله، وهكذا حقّقت فرحَ الله لأنّها كانت قادرة، ومع أنّها كانت مُحمّلةً بالعديد من التّساؤلات حول دعوتها وخدمتها، كانت قادرة أن تُنشَدَ لله نشيدَ تعظيمٍ، ليُعلنها هو كما نقرأُ في سفرِ الرّؤيا: "ملكةً": "وَظَهَرَتْ آيَةٌ عَظِيمَةٌ فِي السَّمَاءِ": "إمرَأَةٌ مُتَسَرْبِلَةٌ بِالشَّمْسِ، وَالْقَمَرُ تَحْتَ رِجْلَيْهَا، وَعَلَى رَأْسِهَا إِكْلِيلٌ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ كَوْكَبًا، وَهِيَ حُبْلَى تَصْرُخُ مُتَمَخِّضَةً وَمُتَوَجِّعَةً لِتَلِد" (12: 1-2).

هذه الاستجابة الثّلاثيّة مهمّة جدًّا في مسيرة الإيمان الشّخصيّ: "الإصغاء– الإيمان– والخدمة بفرحٍ"، المسيحيّة غايتها لا السعادة بل القداسة، والقداسة تكون بقبولِ حياة الشِّركة مع الله، القدّوس، فنسيرَ الحياةَ ونواجه صعوباتها عارفين أنّه معنا: "عمّانوئيل"، فنقبلُ دعوتهُ لخدمةِ تدبيرهِ الإلهيّ بإيمانٍ ونسعى لخدمتهِ بفرحٍ: "مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ لَمْ تَعْبُدِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِفَرَحٍ وَبِطِيبَةِ قَلْبٍ" (تث 28: 47). فالقداسة لن تكون بالقيامِ بأعمال بطوليّة، بل، بأن نكون قادرين نحو توجيهِ حياتنا نحو الله، وصادقين في توجيهِ الآخرين إليه، لأنّها تعرِف أنَّ الله هو الّذي اختارها وملأها من النّعمةِ، وجعلَ سُكناهُ فيها، وحضورها فيها باركها، فصارَ إيمانها هذا بركةً لها ولكلَّ مَن تتشفّع من أجلهِ. لذا، فمثلما أعلنَ الله إبراهيمَ أبًا مُبارَكًا وبركةً للأمم جميعًا (تك 12: 3)، هكذا، أعلنت مريم أمًّا لجميع المؤمنين. كيف صارَ هذا؟

نقرأ في سفرِ التّكوين أنّ الله عزِمَ على تقصّي حالةِ الخطيئة في سدومَ وعمّورة، وهو يعني هلاكها لأنّ خطاياهم شديدة جدًّا عليه. ولكنّ الله قالَ: "هَلْ أخْفِي عَنْ ابْرَاهِيمَ مَا أنَا فَاعِلُهُ. وَابْرَاهِيمُ يَكُونُ امَّةً كَبِيرَةً وَقَوِيَّةً وَيَتَبَارَكُ بِهِ جَمِيعُ أمَمِ الأرْضِ؟ لأنِّي عَرَفْتُهُ لِكَيْ يُوصِيَ بَنِيهِ وَبَيْتَهُ مِنْ بَعْدِهِ أنْ يَحْفَظُوا طَرِيقَ الرَّبِّ لِيَعْمَلُوا بِرًّا وَعَدْلاً لِكَيْ يَأتِيَ الرَّبُّ لابْرَاهِيمَ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ" (تك 18: 17- 19). وهنا، شعرَ إبراهيم أنّه لا يُمكن أن يبقى متفرّجًا على ما سيحصل لسدوم وعمّورة حتّى لو خطأة، فعليه أن يتدّخل، وهو يعرِف أنَّ إعلام الله له كان دعوةٌ من الله لإبراهيم: بيّن إبوّتِكَ، فدخلَ إبراهيم مع الله في جدالٍ حتّى انتزعَ من الله وعدًا بأنّه لن يُهلِكَ المدينةَ بسبب وجودِ عشرة أبرار فيها (تك 18: 32). فهِم إبراهيم أنّ الأبوّة والبركة ليست إمتيازًا بل يجب أن تكون خدمة حياة لجميع النّاس، حتّى الوثنيّين الخطأة.

ونفس الشّعور نجدهُ عند أمّنا مريم الّتي حضرَت عُرسًا في قانا، ولم تُغادرهُ مُتشكّيةً بسببِ نفاذَ الخمر وقصور أهل العُرس في التّدبيرِ، بل تدخّلت لصالحهم عند ابنها ليمنحَ لهم ديمومةً الفرح، بل الأجود (يو 2: 1- 10)، فالأمومةُ تتطلّب الانتباه إلى حاجات الآخرين والتّدخّل ليكون لهم الأفضل.

فاليوم، وعندما نحتفِلُ بمريم ملكةً، ننظرُ إليها ونعرِف أنَّ الله يعرِف أنّنا قادرونَ على أن نُحيي الفرحَ والسّلامَ في حياة كلَّ مَن نلتقيهِ، إنّ تشبّهنا بمريم في إصغائها وإيمانها وطاعتها واستعدادها لأن تخدُم بأيّ شكلٍ من الأشكال. هي اختارَت أن تخدُم مُصلّيةً مع الكنيسة، فبقيت مع الرُّسل في العلّيّةِ تسندهم بحضورها وصلاتها، وتواصلُ هذه الخدمةَ بسخاء، وعندما نتواصل معها في الصّلاة والتّأمّل والإنشادِ، فهو يبعثُ فينا العزيمةَ لمواصلة المسيرةِ، عارفينَ أنّه لن يتخلّى عنّا، فهناك نجمةٌ مُضيئةٌ تفي حياتنا: إسمها مريم، وهي ملكةٌ جلست إلى جانبِ إبنها، ملك الملوك، تُخبرهُ عن حالِ وأحوالِ المؤمنينَ به، لتعلّم الإنسان، أنّ هبةَ الملوكيّة ليست امتيازًا أو افتخارًا، بل خدمةٌ لكلِّ المحتاجين والفقراء، وهذه ما كانت تفعلهُ أم الملوك دومًا.

أعلنتَ إليصابات: "مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ! فَمِنْ أَيْنَ لِي هَذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟ فَهُوَذَا حِينَ صَارَ صَوْتُ سَلاَمِكِ فِي أُذُنَيَّ ارْتَكَضَ الْجَنِينُ بِابْتِهَاجٍ فِي بَطْنِي. فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ" (لو 1: 42- 45)، وكّلّلَ الرّبُّ إيمانها مُعلنًا: "مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَجْلِسَ مَعِي فِي عَرْشِي، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضًا وَجَلَسْتُ مَعَ أَبِي فِي عَرْشِهِ."، فأجلسها ملكةً على الكونِ.

فيا مريم، يا ملكةَ الكون، صلِّ من أجلنا."