بو رعد في يوبيل رهبانيّته: نعاهدكم أن نبقى "فرحين في الرّجاء" شاهدين على رحمة الله وعنايته
وقبل البركة الختاميّة، ألقى بو رعد كلمة قال فيها بحسب إعلام الرّهبانيّة: "أيضًا وايضًا، نرفع لك يا ربّ غاية الشّكران من أجل جسدك، ومن أجل جسدنا الّذي انسكبت فيه نعمة على نعمة الحياة. نشكرك ولا نملّ من عنايتك برهبانيّتنا الأنطونيّة، الفائقة أحيانًا، والرّحيمة دائمًا، منذ أن أبصرت النّور هنا قبل ثلاثة قرون وخمس وعشرين سنة. نشكرك مع أهلنا وناسنا على نعمة الوجود هذه، وعلى جودك ساعة ولادتنا، وعلى مدار السّاعة.
وما أرهبها ساعة، أحبّائي، وما أروعها!
ساعة ولادة رهبانيّتنا، هنا وفي مثل هذا اليوم.
ساعة ولادتنا كأنطونيّين، ساعة نجهلها، بل نحن أعجز من القبض عليها لأنّها تفوق إدراكنا، ومع ذلك فهي تتربّع على عرش ذاكرتنا.
ساعة نستذكرها دون أن نذكرها، نستذكرها وذكرها عندنا عيد، بل يوبيل.
أوليست هذه حال ساعة ولادة كلّ منّا؟ ومن يذكرها؟
يذكرها أمّهاتنا والآباء، لهم الذّكرى ولهم الفرحة، ولنا روايتهم وفرحتهم، وهذا يكفينا.
يكفينا أن نعلم أنّنا ولدنا من فرح وبركة.
نحتفل بتلك السّاعة لا لذاتها بل لذاتنا، ونحتفل بذلك التّاريخ لا كمؤرخين بل كأبناء.
نحتفل بها لما لتلك السّاعة من أثر في ساعتنا اليوم، ومن ملامح جلية في ملامحنا.
ولدنا من رحم كنيستنا المارونيّة ومن رأسها.
ولدنا بإرادة صريحة لراع أضحى رأسًا لهذه الكنيسة، وبرعاية أمير درزيّ كريم الأخلاق والكفّ.
نوع من الزّواج المختلط الّذي نحمل جيناته في روحنا وروحانيّتنا.
دون تاريخ ولادتنا على صفحة مكتظّة بالولادات، زمن التّحوّلات والتّجديد، ومذّاك حجزنا لنا مساحة على صفحات ذاك التّاريخ وذاك الجهاد.
في زمن الولادات ولدنا، ولم نكن الأبكار. حسب سجلّ النّفوس الرّسميّ، ولدنا على بعد خمسة أعوام من إخوتنا في الرّهبانيّة اللّبنانيّة الحلبيّة. جمعتنا حلب: آباؤهم حلبيّو المولد، وآباؤنا حلبيّو الهوى. فنحن رهبان كرسيّ حلب، وشفيعنا ابن واليها. ولدنا من رحم دير سيّدة طاميش، فرع منه، دير تسلّم إخوتنا لاحقًا رعايته.
ولدوا في الجبّة، في العرين، وولدنا في كسروان ذاك الزّمان، على التّخوم. من القرعلي استعار المشمشاني قوانيننا. تعاون أخويّ بسيط: لا فوقيّة، ولا دونيّة، ولا من يحزنون. فهذه لا تليق برجال الله والكنيسة.
تنافس حميد في الصّالحات وفي الإصلاح. إخوة كنّا، وإخوة نبقى، تجمعنا إرادة الآب في بناء ملكوته، ولا يفرّقنا الا ضيق العقل والصّدر والآفاق.
ورثنا من الرّهبانيّة المارونيّة قبل التّجديد التّعاون اللّصيق مع راهبات، راهباتنا الأنطونيّات. هكذا نمت في كنف الرّهبانيّة الجديدة موهبة نسائيّة تكمل رسالة الرّهبان وتتكامل معها.
أديارنا أديارهنّ، وأديارهنّ أديارنا، إلى أن نمت جماعتهنّ بنعمة الله وتجدّدت مع الأمّ إيزابل الخوري الفاضلة واستقلّت.
تجمعنا العائلة الأنطونيّة وتاريخ من التّعاون والمؤازرة، تعلّمنا فيه التّاخي، والنّظر إلى ما هو أسمى وأنفع وأقدس.
ولدنا رهبان دير مار اشعيا، ومنذ ذلك الحين صار مار اشعيا دير الولادات.
فيه ولدت الرّهبانيّة، وفيه ولد كلّ راهب منّا. فيه نقول ما يقوله المزمور في القدس: "كل إنسان ولد فيها، والعليّ هو الّذي ثبّتها".
هنا تتقاطع الولادتان. نحتفل بولادة الرّهبانيّة بمشاعر ولادتنا فيها. هي مشاعر زمن الخطبة، زمن الحبّ الأوّل وأوّل الحبّ، بزهوه وسذاجته وأحلامه.
هنا ولدت رهبانيّتنا على هجعات. في الأولى، كانت ديرًا من دير: مار اشعيا من سيّدة طاميش. وفي الثّانية، دير أم لأديار ورسالات، وما بين الهجعات صلوات آبائنا وأصوامهم وإلهامات.
تاريخنا تاريخ كرة ثلج تدحرجت من قمّة عرمتا في متعرّجات التّاريخ والجغرافيا. كبرت حينًا، وانحسرت أحيانًا، إلى أن انفَلَشَت على مساحة كنيستنا وراء الأسوار والبحار.
ولادتنا انطلاقة إعصار شدّنا كلّنا إليه. أكثر من ألف راهب دخلوا في عين هذا الإعصار. قوّة الجذب فيه متأتّية من نفس إلهيّ خفيف، اجاد آباؤنا الأوّلون تنفسه. رائحته بخور، وأنغامه الحان سريانيّة تصدح على خلفيّة صمت يحتضن همسات إلهيّة. تجلّياته وجوه مستنيرة، وابتسامات على محيّا أبنائها. علاماته: أراض منقوبة، ومدارس في أفياء سنديانة كلّ دير، ورسالات.
مرّت رهبانيّتنا بأزمات كثيرة وتحدّيات. نزاعات في الدّاخل واضطهادات من الخارج. أدخلنا الرّبّ في تجارب كثيرة ونجّانا من الشّرّير بنعمة منه وبفضل رهبان غيّورين أمثال سمعان عريض ومارتينوس الحاج، بطرس، وعمّانوئيل البعبداتي، وإيرونيموس خيرالله، وصلوات نسّاك قدّيسين أمثال جِرمانوس الدِرنانِي وسابا سِركيس وغيرهم ممّن أصرّوا على رفع راية الرّهبانيّة يوم تكسّرت الرّايات بفعل الحروب والويلات أو بازدياد الإثم وفتور محبّة الكثيرين.
لكلّ جيل ساعته، ولنا ساعتنا. وفي هذه السّاعة نجدّد العهود أمام الله والكنيسة والنّاس:
عهدنا لأمّنا الكنيسة المارونيّة، بشخصكم يا صاحب الغبطة، عهد بنوّة ووفاء ومسؤوليّة. عهدنا أن نبقى خليّة حيّة في جسدها الحيّ. عهدنا الإصغاء بغيرة واندفاع إلى حاجات أبنائها، خصوصًا لمن أبكم العار والعوز والضّيق فمه. عهدنا الوفاء لإرشاداتكم يا أبانا، ولأصحاب السّيادة، ولنا من بينهم ثلاثة إخوة أعزّاء، أفرزوا من بيننا لخدمة الرّعاية. من حظيرتنا خرجوا، وإليها يعودون مكرّمين وأجلّاء.
عهدنا للكنيسة الجامعة، ولقداسة البابا لاون الرّابع عشر ممثّلًا بشخصكم يا صاحب السّعادة، أن نواكب مسيرة تجدّده الحثيث ونستقرئ في تدابيره عناية أبويّة حكيمة، تغار على خيرنا وخير الكنيسة. كيف لا، وقد شرّفنا قداسة البابا الرّاحل فرنسيس باختيار راهب منّا وفينا، أخ عزيز، رقّاه من خدمة الرّهبانيّة إلى خدمة الكنائس الشّرقيّة كلّها.
عهدنا لك يا صاحب الفخامة ولدولتنا بأن نكون مواطنين صالحين، بل ورسل المواطنة الجامعة وأصدق المبشّرين بها.
عهدنا أن نكون المثال والقدوة في الدّفاع عن الخير العامّ، فلا خير لنا سواه.
سقفنا القانون، وبه نلتزم دون مواربة أو استكبار.
نقوم بواجباتنا قبل أن نطالب بحقوقنا، وما لنا من حقوق إلّا تلك الّتي تخصّ من تكرّسنا لخدمتهم. عهدنا أن نؤازركم في ورشة البناء والإصلاح والتّطوير.
عهدنا لكم يا شركاءنا في الرّسالة، وأهلنا وناسنا. أنتم الآتون من القليعة، وجزّين، وقطّين، وزحلة، وحوش حالا، والنّبيّ ايلا، وقبّ الياس، وإهدن وزغرتا ومجدليا، وحصرون، والمينا- طرابلس، والنّمّورة، وفتقا، وعجلتون، وزكريت، وأنطلياس، وبحرصاف، وقرنة الحمرا، والمروج، وقرنايل، وشملان، وبعبدا، والحدث، والدّكوانة، والبوشريّة، وبيت مري، ومار اشعيا. عهدنا لكم أن نشرّف رسالتنا بينكم ومعكم، وعهدنا أن تبقوا بعد تمجيد الله والتمس وجهه علّة وجودنا وتكرّسنا.
فبإسم مجلسنا العامّ، والآباء العامّين السّابقين، وباسم إخوتي الغائبين قسرًا عن هذا الاحتفال: نسّاكنا الثّلاثة في صوامعهم، وكبارنا الثّلاثة في قلالي شيخوختهم، وباسم إخوتنا المرسلين إلى سوريا، وسلطنة عُمان، وبروكسل، وجنيف، ومالبورن، وونتزر، وتورونتو، والولايات المتّحدة، وباسم إخوتنا المبتدئين والدّارسين، وباسم آبائنا الّذين علّمونا أن نحبّ الله وهم الآن غارقون في حبّه، وباسم كلّ راهب أنطونيّ، نجدّد نذر حياتنا أمامكم يا من حضرتم لتشاركونا فرحة يوبيلنا، ونعاهدكم أن نبقى "فرحين في الرّجاء"، شاهدين على رحمة الله وعنايته بالكنيسة وبالعالم.
وأنت يا أمّنا مريم، يا من ولدت رهبانيّتنا يوم ولادتك إلى السّماء، نسألك أن تشملينا بعطفك وبشفاعتك الكريمة على الدّوام، وترفعينا معك إلى قامة القائم، فلا ننفكّ نطوّبك مع كلّ الأجيال، ونعظّم الرّبّ معك، لأنّه نظر إلى تواضعك ووضاعتنا، ليفتقدنا ويصنع بنا العجائب، فتمجّد بنا من جيل إلى جيل رحمته. آمين".
يُذكر أنّه وخلال الاحتفال، قدّم الرّئيس العامّ للرّهبانيّة هديّة تذكاريّة إلى البطريرك الرّاعي عبارة عن لوحة تحتوي على قطعة ورقيّة كتبت عليها فرائض الرّهبنة في العام 1700. كما قدّم الأباتي هديّة إلى الرّئيس عون عبارة عن تمثال لجسم المسيح القائم من بين الأموات صمّمه الفنّان رودي رحمة.