دينيّة
07 تشرين الأول 2016, 13:45

خاصّ- "أبونا أنطون" ذخيرة إيمان نجّت دير مار سركيس وباخوس في عشقوت من كارثة

ريتا كرم
في منطقة "الجوّانيّات" في عشقوت، دير يربو تحت سماء أشرقت في تشرين الأوّل/ أكتوبر، ساكبة على المكان حرًّا ترطّبه نسمات ناعمة تنفحها الأشجار المزروعة من حوله في مساحات خضراء واسعة يملكها دير مار سركيس وباخوس للرّهبان المريميّين، المعروف بدير "الحريق"، وتعطّره رائحة قداسة لم تمحُ أثرها الأيّام بعد، لأنّه في زمن ليس ببعيد، وتحديدًا بين العامين 1990 و1994، استقبل الدّير حبيس "حراش" الأب أنطونيوس طربيه في غرفة حفظت داخل جدرانها أنفاس الرّاهب القدّيس الممزوجة بالألم وبالسّلام تغمرهما ثقته بمريم العذراء وتسليمه للرّبّ يسوع.

 

يعود الدّير إلى سنة 1890، يوم قرّر الرّئيس العامّ للرّهبانيّة الحلبيّة اللّبنانيّة أو المارونيّة المريميّة اليوم، الأباتي سابا دريان العشقوتيّ أن يشتري الأرض من أقربائه ويحوّلها إلى دير زراعيّ فمدرسة لأولاد الجوار، فدير ابتداء بقرار من الرّهبانيّة، ثبت الاختيار عليه في العام 1981 بعد أن تغيّر المقرّ، منذ القرار الأوّل، 4 مرّات، فبُني الطّابق الثّاني منه لاستقبال المبتدئين، بعد أن شهد الدّير إصلاحات وأعمالاً ترميميّة عديدة على مرّ السّنين ليكتسب أخيرًا طلّته الحاليّة.

فعند المدخل إشارة ترحّب بزوّار الدّير ومغارة للعذراء محفورة في قلب الصّخر وطريق معبّدة تقودك إلى دير حجريّ يعلوه قرميد يحاكي فنّ العمارة اللّبنانيّة، وفيه يعمل طلّاب الابتداء التّسعة تحضيرًا لاحتفالات اليوبيل الـ125 وعيد شفيعي الدّير، والرّئيس العامّ الأب جهاد يونس يستقبلنا بضحكته المرحّبة ويعطي موقع "نورنيوز" شرف التجوّل في الدّير مستطلعًا تاريخه العريق بدردشة خاصّة معه.

البداية من كنيسة الدّير الّتي تزيّن صدرها لوحة كبيرة للشّهيدين سركيس وباخوس توقّعها ريشة الفنّان اللّبنانيّ حبيب سرور منذ العام 1891 وفوقها لوحة زجاجيّة خُطّ عليها بالسّريانيّة "الله هو محبّة" صمّمها الأب جان مهنّا المريميّ. أمّا مذبحها الرّخاميّ فيضمّ ذخائر قدّيسين يسهر عليها يسوع الحيّ في بيت القربان والصّليب الّذي يذكّر المصلّين بسرّ الفداء. على يسار المذبح تمثال لمريم العذراء وذخائر للقدّيسة تريزيا الطّفل يسوع، وعلى يمينه تمثال لمار يوسف، في حين تبارك جدران الكنيسة لوحتان لمار يوسف ومار جرجس.

في دير الابتداء، يعيش المبتدئون التّسعة برعاية الأب الرّئيس جهاد يونس والوكيل القيّم الأب ميلاد أنطون والأخ المساعد عبدو سليمان، ويتغذّون من نظام روحيّ يوميّ: 3 محطّات للصّلاة (الصّبح، الظّهر والمساء)، القدّاس اليوميّ الصّباحيّ، تأمّل مسائيّ، ومواضيع روحيّة منوّعة؛ ويرافق ذلك نشاط جسديّ ونقصد بذلك الأشغال الدّيريّة.

وفي رواق الدّير، نسير مع الأب جهاد فنتنشّق غنًى فريدًا رسّخته ذخائر عُلّقت على الجدران، وتعود إلى: المطران عبدالله القراعلي أحد مؤسّسي الرّهبانيّة المارونيّة المريميّة، الأب الحبيس لورنسيوس الحَيْمَري الدّيرانيّ، الأب الحبيس عبد المسيح الحايك الشّبابيّ، القدّيسين لويس وزيلي مارتان وطفلتهما القدّيسة تريزيا الطّفل يسوع، وذخيرة القدّيسة رفقا.

أمّا المكان الأكثر رهبة في دير مار سركيس وباخوس فهي غرفة الأب أنطونيوس طربيه الّتي يرشدك إليها "مَشلحه" الرّهبانيّ المحفوظ في خزانة زجاجيّة مقابل الباب من الخارج. وفي الدّاخل، غرفة صغيرة تضيئها نافذة حفرت لها مكانًا بجانب سريره يغلّفه غطاء استند إليه صليب الحبيس، وعلى الحائط أيقونة العذراء مريم رفيقته وأخرى لقلبها الطّاهر، وفوق رأسه لوحة ليسوع.

هنا تشعر وكأنّ من يطلق عليه البعض "بادري بيو لبنان" حاضر لأنّ قداسة استثنائيّة محفورة بين الجدران الأربعة. فعندما تجول بنظرك في الأرجاء، تستوقفك كرسيه الّذي كان عليه يستريح بين الفينة والأخرى ويجلس عليه ليستقبل زوّار الدّير الّذين توافدوا إليه من كلّ حدب وصوب ما إن شاع خبر تواجده فيه، فكانوا يأتون ليعترفوا ويسترشدوا لدى "أبونا أنطون" ويطلبوا النّعم من النّاسك الّذي ما أغلق بابه أمام أحد رغم مرضه وصعوبة تحرّكه، ولا كفّ عن الابتسام وزرع السّلام في القلوب ودعوتهم إلى التّوكّل على مريم العذراء الّتي أنقذته مرارًا وتكرارًا في أعاجيب سجّلها هذا الدّير عشيّة 19 ت1/ أكتوبر 1990 ورسّختها صورة علّقت على الجدار ومخطوط يتلو أحداثها. وباختصار، وبينما كان الرّاهب يصلّي راح الشّيطان يحاربه فاشتعلت المنضدة قرب سريره وتآكلت النّيران الخزانة الّتي فوقها ووصلت شرارتها إلى السّقف الكرتونيّ من دون أن تمسّ الرّاهب بأذى، إذ بقي مستلقيًا على فراشه يتنفّس بشكل طبيعيّ وثيابه بيضاء نظيفة على عكس وجوه الرّهبان السّوداء الّذين دخلوا يتفقّدونه مرتعبين، ليكتشفوا أنّه نجا لأنّه استنجد بالبتول القدّيسة مريم، فرآها "بعين العقل تدخل عليه وتمرّر يدًا سرّيّة قديرة قد حفظته".

آية أخرى انهمرت على زوّار الدّير، ففي أحد أيّام شهر أيّار/ مايو، زارته مجموعة من النّسوة ومعهنّ صبيّ لم يتخطّ من العمر السّنتين كان قد توقّف نموّه ونحل جسمه بسبب سرطان الدّمّ، ولا يزال أمامه شهر واحد ليعيش. إلّا أنّ زيارة إلى رجل الله "أبونا أنطون" كانت كفيلة لينعم "جو ريشا روكز" بالشّفاء الّذي أكّد عليه  النّاسك بعد أن صلّى على نيّة الصّبيّ مستنجدًا بالعذراء، فقال للأهل والدّموع تنهمر بغزارة من عينيه، وصدره يعلو ويهبط: "أجل بين عيدي العذراء!" أي عيد انتقالها وعيد مولدها، وهكذا تمّ.

الأب جهاد الّذي عايش قدّيس الدّير لسنة تقريبًا يوم كان لا يزال في الابتداء، لمس النّعمة الّتي سكنت المكان وقتها و"شعّ" بوجود هذا "الختيار" الّذي يحمل تاريخًا رهبانيًّا عريقًا وخبرة روحيّة واسعة ينمّيها التزامه بالتّكرّس وعيش النّسك، عاكسًا بتقواه صورة الرّاهب المثاليّة لكلّ من نبتت في نفسه الدّعوة الرّهبانيّة حينها. ولا يزال الأب "الرّيّس" يسمع صدى صوته الخافت لليوم مردّدًا ودموع التّأثّر في عينيه: "أحبّوا العذراء!" بخاصّة في ظلّ الصّعوبات والتّجارب، ويرتشف وسكّان الدّير من كأس الأب أنطونيوس طربيه في كلّ مرّة أنهكتهم التّجربة فيلجأون إلى قلّايته ويصغون إلى همس الرّوح يدعوهم إلى الاحتكام لنصائح القدّيس وخبرته الّتي سمعوا عنها وتعلّقوا بها كما لو عايشوها، متمثّلين بجنديّي الله سركيس وباخوس متمسّكين بقضيّة المسيح أمينين لإيمانهم ومجتهدين ضدّ التّجربة وكلّ أنواع الاضطهادات.

من دير مار سركيس وباخوس في عشقوت، وفي عيدهما، ومن وسط دير الابتداء للرّهبانيّة المارونيّة المريميّة، ومن منهل القدّيس الأب أنطونيوس طربيه، نسمو إلى السّماء بأفكارنا وقلوبنا، ونتلو مع المزمور 84/1: "ما أحبّ مساكنك يا ربّ الجنود".