دينيّة
17 كانون الثاني 2021, 08:00

خاصّ- الأب أبي عون: مع كورونا أو غير كورونا، الله يسكن بيننا

غلوريا بو خليل
حطّت الكنيسة رحالها اليوم في الأحد الثّاني بعد الدّنح لتظهر اعتلان سرّ يسوع المسيح للرّسل من خلال إنجيل القدّيس يوحنّا (1/ 35 – 42) لتنطلق الرّسالة، ولتنطلق البشارة فتزرع الفرح والسّلام لكلّ من لمسته ومسّته فسكبت في قلبه الرّجاء. من هنا، كان لموقعنا حديث روحيّ استثنائيّ في هذه الظّروف المؤلمة والحزينة لنبلسمها ونعطها معنى بإيمان راسخ ورجاء مفعم بحبّ ربّنا وإلهنا يسوع المسيح مع رئيس أنطش سيّدة التّلّة - دير القمر وخادمه، الأب جوزف أبي عون الرّاهب الماروني المريميّ.

"يتميّز الإنجيليّ يوحنّا بنكهة خاصّة في كتابة إنجيله وأسلوب سرد أحداثه. هو الرّوح نفسه الذي ألهمَ الإنجيليّين الأربعة بالكتابة عن يسوع، لكنّه ترك في الوقتِ عينه لكلّ إنجيليّ خصوصيّته في الكتابة وثقافته في الأسلوب. يوحنّا الإنجيليّ معروف باللّاهوتيّ الكبير الذي حلّق عاليًا في عمقِ سرّ المسيح وأبحر وسيعًا في فسيح سمائه، فنهلَ منه الكنوز وارتوى من دَفق مياهه، وأعلن إنجيله يسوع قوتًا للبشريّة وشرابًا لها عربونًا للحياة الأبديّة. هذه ميزة يوحنّا في إنجيله وتمايزه عن الأناجيل الثلاثة الإزائيّة متّى ومرقس ولوقا."

بهذه المقدّمة مهّد الرّاهب أبي عون لشرح الإنجيل ذاهبًا بنا إلى العمق مستفيضًا "أمّا إنجيلنا اليوم في الأحد الثّاني بعد الدّنح، الذي يبدأ بعبارة "في الغد أيضًا…"، أراد منها الرّسول يوحنّا لفتَ انتباهنا بأنّ الأحداث الجارية في الفصل الأوّل من إنجيله مرتبطة ببعضها البعض ومحورها يسوع المسيح العريس السّماويّ الذي تجسّد وسكن بيننا مفتتحًا رسالته بالمعموديّة مع سائر الشّعب على يد يوحنّا المعمدان."

وتابع خادم رعيّة دير القمر مسلّطًا الضّوء على تواضع يوحنّا المعمدان وغيرته الإيجابيّة على الرّسالة المعطاة له، فقال: "في هذا اليوم التّالي، أيّ ما بعد المعموديّة، يمرّ يسوع أمام يوحنّا المعمدان الذي كان واقفًا ومعه إثنان من تلاميذه. يوحنّا المعمدان رجلٌ عظيم، هو عظيمٌ لأنّه متواضعٌ وحرّ في داخله ومدركٌ للرّسالة التي أُرسلَ من أجلها. لَمْ تدخل الغيرة والحسد إلى قَلْبِه حين رأى يسوع مارًّا أمامه، ولم يحزن على قرب انتهاء دوره، بل كان عنده الوعي الكامل والتّسليم التّامّ بأنّ دوره تمهيديّ وتحضيريّ، والمارّ أمامه الآن هو الأساس والباقي والمشار إليه في التّوراة والأنبياء: "هو حمل الله الحامل خطيئة العالم". جمال عظمة أنبياء الله وقدّيسيه في فضيلة التّواضع التي زيّنت حياتَهم وأزهرتها ورودًا فجعلت منهم يوبيلاً (أيّ بوقًا لدعوة الشّعب) صادقًا لكلمة الله والشّهادة له."

وأضاف شارحًا: "يوحنّا المعمدان يحدّق إلى يسوع بعد أن رآه مارًّا أمامه. والتّحديق بالشّخص يعني التّركيز عليه جيّدًا والتّأمّل به، وليس فقط النّظر إليه نظرة عابرة. كمّ من الحبّ والانجذاب الرّوحيّ خرج من يوحنّا المعمدان تجاه يسوع المارّ أمامه، لعلّه استفاض فرحًا كاملاً بنيله هذا الاستحقاق بأنّ يرى بعينيه حمل الله، مرتجى الأجيال وفادي البشر أجمعين. يتخلّى عن تلميذيه ويدعوهما لاتّباعه. "أنا عليّ أن أنقص وهو عليه أن يكبر"، هو يوحنّا المعمدان أعظم مواليد النّساء.

يترك التّلميذان معلّمهم السّابق يوحنّا ويتبعان المعلّم الأصيل بخطًى ثابتة. ما أجملها حركة عفويّة من يسوع تجاههما، فيها الكثير من الحبّ والانتباه. يقول لنا الإنجيليّ يوحنّا بأنّ يسوع "التفتَ فرآهما يتبعانه". فسألهما "ماذا تطلبان؟". "أين تسكن يا معلّم؟" سألا يسوع. "تعاليا وانظرا " أجابهما. فذهبا ونظرا أين يسكن، وسكنا عنده ذلك اليوم.

كأنّيّ بالإنجيليّ يوحنّا، وهو يكتب بإلهامٍ إلهيّ "ما رأت عيناه وما لمست يداه"، قد أراد بهذا الحوار الفائق الرّوعة والجمال، ببعده الإنسانيّ واللّاهوتيّ، والذي ختمه بكلام يسوع "تعاليا وانظرا" من دون تحديد المكان، أن يُقول لنا بأنّ سكنَ يسوع هو في كلّ الأمكنة وفِي مختلف الأزمان. يريد إيصال الرّسالة الجوهريّة للبشرى السّارّة بأنّه حيث يسكن الإنسان هناك يسكن الله. "تعاليا وانظرا" بدون ذكر المكان وتحديد جغرافيّته، هو بالواقع تفسير طبيعيّ لِحقيقة التّجسّد الإلهيّ التي ذكرها الإنجيليّ يوحنّا في الآيات السّابقة للنّص بأنّ " الكلمة صار جسدًا وسكن بيننا"، أينما نحن، يسكن الله بيننا."

وأكمل الرّاهب المريميّ واضعًا يده على جرحنا في هذا الوقت العصيب من وباء كورونا ليعضدنا قائلًا: "نِعم، هو قمّة الحبّ الإلهيّ المتجلّي بهذا السّكن بيننا نحن الضّعفاء الخطأة المساكين غير المستحقين. مع كورونا أو غير كورونا، الله يسكن بيننا. الله يحبّنا، وهذا الحبّ هو عابرٌ للأمكنة والحالات والحدود. لا يغربن عن بالنا أبدًا بأنّ يسوع سيكون ساكنًا معنا وبيننا حيثما سنقرأ هذا الإنجيل وسيدعونا لاتّباعه والعيش معه. هذا السّكن مع يسوع في ذلك اليوم، وما رآه فيه واختبره، دفع بأندراوس، وهو كان أحد التّلميذين، بأنّ يلتقي أخاه سمعان ويقول له: "لقد وجدنا مشيحا، أيّ المسيح". كما يقول البابا الفخريّ بندكتس السّادس عشر: "المسيحيّة ليست مجموعة عقائد لاهوتيّة أو أخلاقيّة وحسب، بل لقاء معيوش مع شخص إسمه يسوع المسيح… وهذا اللّقاء يفتح لي آفاقًا جديدة لحياتي".

وإختتم خادم رعيّة دير القمر المريميّ حديثه مؤكّدًا أنّ "هذا ما حدثَ مع هؤلاء التّلاميذ الأوائل، وما يحدث معنا في كلّ مرّة نلتقي بيسوع، أو يلتقى هو بنا. سيغيّر حياتنا و"أسماءنا" كما غيّر حياة وإسم سمعان إلى بطرس أيّ الصّخرة، فتصبح أسماؤنا وحياتنا إعلانًا لسكن الله الكلمة بيننا. ما أجملها هديّة نحملها معنا في لقاءاتنا وزياراتنا كما حملها أندراوس لأخيه "لقد وجدنا مشيحا… لقد وجدنا المسيح"، وسيكون كلّ شيء جميل. آمين."