الأراضي المقدّسة
10 كانون الثاني 2024, 09:45

رسالة الميلاد لبطريرك أورشليم ثيوفيلوس الثّالث

تيلي لوميار/ نورسات
من بيت لحم وجّه بطريرك أورشليم ثيوفيلوس الثّالث رسالة عيد الميلاد كتب فيها بحسب إعلام بطريركيّة المدينة المقدّسة:

"إِنَّنِي أُشاهِدُ سِرًّا غَرِيبًا بَاهِرًا،

المَغَارَةَ سَماءً وَاَلْعَذْراءَ عَرْشًا شاروبِيمْيًا

والمَذوِدَ مَحَلًّاً شَرِيفًا أُضْجِعَ فِيه

المَسيحُ الإِلَه غَيْرُ اَلْمَوْسوعِ فِي مَكانٍ، فَلْنُسبحْهُ مُعْظَمينَ.

(ارمس الأودية التاسعة من قانون الميلاد)

حقًّا لقد رأتِ البشريّةُ عندَ نهايةِ الأزمنةِ سرًّا غريبًا باهرًا كما يقولُ مرنّمُ الكنيسة، في عهدِ أوكتافيوس أغسطس قيصر، إذْ عاينتْ تنازلَ اللهِ جليًّا في بيتَ لحمَ، لقد حقّقَ اللهُ وعودَهُ للأنبياءِ إذْ "أرسلَ فداءً لشعبِه". وهذا الفداءُ هوَ ابنُ اللهِ الوحيدِ وكلمتُهُ المساوي للآبِ في الجوهرِ. لهذا فإنَّ الآبَ سرَّ بأنْ يتجسّدَ الابنُ وأنْ يأخذَ جسدًا وصورةً بشريّةً حيّةً وعاقلةً من الرّوحِ القدسِ ومنَ الدّائمةِ البتوليّةِ مريم، كما علِمَ وشاءَ وارتضى ويقولُ الإنجيليُّ يوحنّا وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا (يو 1: 14) لإجلِنا أَخلى ذَاتَهُ (في 2: 7). ولقدْ وُلِدَ في الَمغارةِ مُتنكّرًا واقتَبلَ الفقرَ الأقصى مولودًا في مغارةٍ مُضْجَعًا في مِذودٍ مُدْرجًا في الأقمطةِ وفي هذا الفقرِ ظَهرَ غِنى لاهوتِهِ متلالِئًا. لهذا فإنَّ السَّماءَ قدَّمتْ لهُ المجوسَ بواسِطةِ النّجمِ كبَاكورةِ الأُممِ. (وسَابقي الكنيسةِ) بحسبِ القدّيسِ يوحنّا الذّهبيِّ الفمّ. وملاكٌ من السّماءِ أعلنَ مَولدَهُ للرّعاةِ السّاهرينَ وجُمهورُ الملائكةِ بشّروا بهِ منَ السّماءِ بالتّسبيحِ "الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَفي النّاس الْمَسَرَّةُ، معلنينَ بأنَّ مسرّةَ اللهِ للبشرِ هي السَلامُ. هذا السَلامُ الإلهيُّ الّذي يَفوقُ فهم العَقلِ يأتي إلى العالمِ بكلمةِ الله ِالمتجسّدِ، يسوعَ المسيح؛ إنّهُ "رسولُ الرّأيِ العظيمِ ورئيسُ السّلامِ وشَمسُ البرِّ".  

إنَّ الكَنيسةَ مؤسَسَةٌ على هذا الاعِلانِ الالهيِّ بشهادةِ شهودِ العيونِ والآذانِ في الكتبِ المقدّسةِ، تُؤمنُ وتُبَشِّرُ أعَضاءَها في العَالمِ أَجمْع، بأنَّ المسيحَ هوَ الُمخلِّصُ وفادي الجنسِ البشريّ، لا كإنسانٍ مُؤَلّهٍ بلْ كَإلهٍ مُتأنّسٍ لأجلِ الخلاصِ أيّ تَأليهِ الإنسانِ. لقد انَحدرَ الله ُإلى الأرضِ ليرفعَ الإنسانَ إلى السّماءِ حيثُ سِيرَتَنَا نَحْنُ هِيَ فِي السَّمَاوَاتِ (في 3: 2) بحسبِ بولس الّذي عبرَ إلى السّماواتِ. إنَّ آباءَ الكنيسةِ يَقولونَ دائمًا وبدونِ توقّفٍ بأنّهُ تأنَّسَ الإلهُ لكيْ يتألّهَ الإنسانُ. وأمّا القدّيسُ غريغوريوس بالاماس يُكرِزُ بأنّهُ تَمجدَ الجسدُ عِندما أَخذَهُ المسيحُ، ومَجدُ الألوهيةِ يُصِبحُ مجدَ الجَسَدِ. وبتأنُّسِهِ وصلبِهِ وقيامتِهِ منْ بينِ الأمواتِ وصعودِهِ، جَلسَ المسيحُ كإِلهٍ وإنسانٍ، عنْ يمينِ الآبِ مَع طبيعَتَهِ البشريّة الّتي أَخذها، أيّ "جسدَهُ" بحسبِ الآباءِ، وصَنعَ طريقَ التّألّهِ لكلِّ المؤمنينَ بِهِ.

وبعدَ أنْ صَعِدَ المتأنّسُ ربُّنا يسوعُ المسيحِ والمصلوبُ بالجَسَدِ والقائمُ من بينِ الأمواتِ إلى السّماواتِ، تَركَ على الأرْضِ الكَنيسةَ الّذينَ همُ القدّيسونَ التّلاميذُ والرّسلُ وخلفاؤُهُم رؤساءُ الكهنةِ والكهنةُ والرّعيّةُ المسيحيّةُ، لكي تُكمِلَ عملَهُ إلى الأبدِ، أيّ التَعليمَ والمُصالحةَ وتَقديسَ النّاسِ حتّى يعُمَّ ويسودَ على الأرضِ ما سُمِعَ في اللّيلةِ الأولى من ميلادِهِ: المجدُ للهِ في العلى وعلى الأرض ِالسّلامُ وفي النّاس المسرّةُ.

إنَّ الكَنيسةَ في كلِّ مَكانٍ في الأرضِ وبخاصّةٍ كنيسةُ آوروشليم المباركةِ تُكرِزُ بهذا القولِ وتقومُ بهذا العملِ طَاعةً لمؤسِّسها، وإذْ تَخدُمُ في أمَاكِنِ ظُهورِهِ بالجسدِ، وأوّلّها مَدينةُ بيتَ لحم. في كنيسةِ المهدِ القسطنطينيّةِ الملوكيّةِ، وفي هَذهِ الَمغارةِ البسيطةِ المتواضعةِ القَابلةِ للإلهِ سَتحتَفِلُ هَذهِ السَنةَ أيضًا أمُّ الكنائسِ مبتدئةً بآوروشليم، محافظةً على تقليدِها العريقِ منذُ أيّامِ الزّائرةِ الحاجةِ إيثريا وسَلَفِنا السّعيدِ الذّكرِ البطريرك صفرونيوس. وتَحتَفِلُ أيضًا هذهِ السَّنةَ أمُّ الكنائسِ بِبَساطةٍ وتواضعٍ بدونِ مَظاهرِ الاحتفالِ، لأنَّ رَاحِيلَ أُخْرَى تَبْكي، على ضَحَايا الحربِ الُمدَمرةِ في غَزةَ وفي المنَاطِقِ الشَاسعةِ، وتُنَاشِدُ الكَنيسةُ حُكّامَ العَالمِ الّذينَ لَديهِم القوّةُ والَمقدِرَةُ لِوقفِ الأعمَالِ الحربيّةِ العدائيّةِ منْ أجلِ حِمايةِ كُلِّ نَفْسٍ بَشريّةٍ؛ لأنَّها صورةُ اللهِ.

وإذ ممُتْلَئينَ بِفَرحِ ميلادِ المسيحِ نَتَقَدّمُ بِبركاتِنا وأدعيَتِنا البطريركيّةِ والأبويّةِ إلى كلِّ منْ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ (1 يو 4 :2) وإلى زوّارِنا الأتقياءِ وبالأخصِّ رعيّتُنا التّقيّةِ في غزّةَ ومع صلواتِنا لكيْ يبقى القدّيسُ بورفيريوس حَاميًا للرَّعيّةِ ولكلِّ منْ هُمْ في ضيقٍ ورُزءٍ شَديدٍ بِسببِ الحربِ المشْتعلةِ.

هَذِهِ الْحَرْبُ الَّتِي ارْتَقَى ضَحِيتَهَا الْآلاَفُ مِنَ الْمَدْنِيِّينَ، غَالِبِيّتُهُم مِنَ الأَطْفَالِ وَالنِّسَاءِ، وَدُمِّرَتْ خِلَالَهَا أَحِيَاءُ سَكَنِيَّةٌ بِرُمّتِهَا، وَمَدَارِسُ وَمُسْتَشْفَياتٌ ودورُ عبادةٍ وَمَرَاكِزُ ثَقَافِيَّةٍ وَآثَارٌ تَارِيخِيَّةٌ، لِتَكُونَ شَاهِدًا عَلَى مَدَى الشَّرِّ الَّذِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُومَ بِهِ الإِنسَانُ الظّالمُ. فَتَرَفَّعُ دَعَوَاتِنَا لِرَبِّنَا الْعَلِيِّ الْقَدِيرِ فِي هَذَا الْيَوْمِ المُباركِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ ملك ُ السَّلاَمِ، لِيَرْفَعَ الظُّلْمَ وَالْعَذَابَ عَنْ أَهْلِنَا فِي غَزَّةَ، وَيُمْنِحَهُمْ الأَمَانَ وَالسَّلاَمَ وَالطَّمَأْنِينَةَ، لِأَنَّنَا نَتَوَجَّعُ لِوَجْعِهِمْ، وَنَتَأَلَّمُ لآلامِهِم، وَمِنْ هَذَا الْمَنْطِقِ أَتَتْ دَعْوَتُنَا لِاقْتِصَارِ أَعِيادِ الْمِيلَادِ عَلَى الشّعَائِرِ الدِّينِيَّةِ فَقَطْ، فِي رِسَالَةِ وَحْدَةٍ وَتَكَاتُفٍ، لَيْسَتْ فَقَطْ لِأَهْلِنَا وَإِخْوَانِنَا وَأَخَوَاتِنَا الْمُعَذَّبِينَ فِي غَزَّةَ بَلْ أَيْضًا رِسَالَةٌ إِلَى شعوب الْعَالَمِ، بِأَنَّنَا شَعْبٌ وَاحِدٌ يَعِيشُ نَفْسَ الأَلَامِ وَالآمَال.

تُبارِكُ كنيسةُ أوروشليمَ رَعِيَّتَهَا في الأرضِ الْمقدَّسَةِ، ونتوجّهُ إلى فخَامةِ رئيسِ دولةِ فِلسطينَ الأبيّةِ محمود عبّاس أبو مازن من خلالِ مُمَثِّلهِ معالي عضو اللّجنةِ التّنفيذيّةِ لمنظّمةِ التّحريرِ الفلسطينيّةِ ورئيسِ اللّجنةِ الرّئاسيّةِ العليا لشؤونِ الكنائسِ، معالي الدّكتور رمزي خوري، وأيضًا إلى جلالةِ الملكِ عبدِ اللهِ الثّاني، صاحبِ الوصايةِ الهاشميّةِ على المقدّساتِ الإسلاميّةِ والمسيحيّةِ في الأراضي المُقدَّسةِ، من خلال مُمَثّلهِ معالي السّفير عصام البدور، والى جميعِ الضّيوفِ الكرام، قائلينَ: لقد شرفْتُمُونا بحضورِكُم عيدَنَا اليوم، مُتَمنيينَ لكم موفورَ الصّحّةِ والعافيةِ ، مُتضرّعينَ إلى العليّ القديرِ أن يمنحَكَم جميعًا العمرَ المديدَ ليحصد َشعبنُا ثمرةَ نضال طويلٍ للوصولِ إلى دولةٍ فلسطينيّةٍ حرّةٍ مستقلّة."