رسالة الميلاد للبطريرك مار بشارة بطرس الرّاعي
"1.في ليلة حالكة، ورعاةُ بيت لحم ساهرون على مواشيهم، تراءى لهم ملاك الرّبّ، بنور إلهيّ، ونقل إليهم البشرى العظيمة: "أبشّركم بفرح عظيم، يكون للعالم كلّه: لقد ولد لكم اليوم المخلّص، هو المسيح الرّبّ" (لو 2: 10 – 11).
ميلاد يسوع المسيح قلب التّاريخ. به انقسم الزّمن إلى ما قبل الميلاد وما بعده. الله قرّر أن يدخل تاريخ الإنسان دخولًا نهائيًّا. دخل لا كقاضٍ يدين، بل كطفلٍ وديع؛ لا كسيّد متسلّط، بل كإلهٍ متجسّد؛ لا ليُلغي الإنسان، بل ليخلّصه من الدّاخل.
في الميلاد، نكتشف أنّ الله لا يخلّص الإنسان خارج تاريخه، بل من خلاله. لا يخلّصه من السّماء فقط، بل من على الأرض، من الواقع، من الجرح، من الفقر، من القلق، من الخوف. لذلك وُلد يسوع في مذود، على هامش الإمبراطوريّة، بعيدًا عن مراكز القرار، ليقول لكلّ إنسان: أنا معك حيث أنت.
2. يسعدني وإخواني السّادة المطارنة الأجلّاء أن نبادلكم التّهاني والتّمنّيات بالميلاد المجيد والسّنة الجديدة المقبلة ٢٠٢٦، يا قدس الرّؤساء العامّين والرّئيسات العامّات وحضرة الرّؤساء والرّئيسات الإقليميّين والإقليميّات، وسائر الرّهبان والرّاهبات، وهذا الجمع الحاضر. وأشكر معكم قدس الأب الياس سليمان، رئيس عامّ جمعيّة المرسَلين اللّبنانيّين الموارنة، على الكلمة اللّطيفة الّتي قالها باسمكم.
إنّي أخشع معكم أمام طفل المغارة، سائلين هذا الإله المتجسّد، أن يبارك رهبانيّاتنا الرّجاليّة والنّسائيّة بنعمه وبدعوات مقدّسة تعمل وتشهد في حقل الرّبّ الفسيح.
وأودّ بالمناسبة أن أهنّئ معكم أبناء وبنات كنائسنا المنتشرين في لبنان والأراضي البطريركيّة وبلدان الانتشار. ومعكم أهنّئ جميع اللّبنانيّين الأحبّاء.
3. ما زلنا نعيش فرح زيارة قداسة البابا لاون الرّابع عشر إلى لبنان في آخر تشرين الثّاني وأوائل كانون الأوّل الجاري. فنشكر قداسته على رسالة السّلام الّتي حملها إلى اللّبنانيّين، مردّدًا: "السّلام ممكن"، بوجه التّهديدات بالحرب. فما إن غادر لبنان، حتّى في اليوم التّالي كانت الموافقة الأميركيّة والإسرائيليّة على بدء المفاوضات الأمنيّة وتطبيق القرار ١٧٠١ وما يتّصل به، بواسطة الميكانزم برئاسة السّفير سيمون كرم. إنّنا نصلّي من أجل نجاح هذه المفاوضات وإبعاد شبح الحرب، وتمكين الجيش اللّبنانيّ من جمع السّلاح غير الشّرعيّ وحصره بيد السّلطة، لكي تبسط سيادتها على كامل الأراضي اللّبنانيّة.
نشكر قداسة البابا على الرّجاء والثّقة بالنّفس اللّذين زرعهما في قلوب اللّبنانيّين. ولنصلّي على نيّته لكي يسدّد الله خطاه في رعاية الكنيسة بروحانيّة القدّيس بطرس الرّسول، والاقتداء بالمسيح، الرّاعي الصّالح.
4. إلى جانب الهمّ الأمنيّ، لا يمكننا أن نغفل الوجع الاجتماعيّ العميق. العائلات تعاني في معيشتها، في مدارس أولادها، في مستشفياتها، في تأمين أبسط مقوّمات الحياة. الوضع الاقتصاديّ والماليّ ما زال يضغط بقسوة، وقيمة اللّيرة، رغم كلّ الكلام، ما زالت تثقل كاهل المواطن، والإصلاحات الموعودة ما زالت غائبة.
الحقيقة المؤلمة أنّ المواطن اللّبنانيّ هو من يدفع الثّمن. وحده بصبره، وكرامته، وتضحياته. هو الّذي قام بالدّولة حين غابت، وحمل المؤسّسات حين تهاوت، وصمد حين انهار كلّ شيء. المواطن اللّبنانيّ هو البطل الصّامت، المناضل اليوميّ، المقاوم بالحياة، لا بالشّعارات.
5. لبنان اليوم لا يحتاج إلى إدارة أزمات متلاحقة، بل إلى رؤية وطنيّة شاملة، وإلى إرادة سياسيّة صادقة، تُخرج البلاد من منطق التّرقيع والانتظار، إلى منطق البناء والمسؤوليّة. المطلوب دولة حاضرة لا غائبة، عادلة لا انتقائيّة، قويّة بمؤسّساتها لا بهشاشتها، دولة تحمي الإنسان بدل أن تتركه وحيدًا في مواجهة مصيره.
نناشدكم، أيّها المسؤولون السّياسيّون، أن تجعلوا من الإصلاح أولويّة لا شعارًا، ومن الشّفافيّة نهجًا لا استثناءً، ومن العدالة قاعدة لا تنازلًا. الإصلاح الاقتصاديّ والماليّ لم يعد خيارًا، بل ضرورة وجوديّة، تبدأ بإعادة الثّقة، وتنظيم الماليّة العامّة، وحماية أموال النّاس، وضمان حقوقهم، وتأمين الحدّ الأدنى من الاستقرار المعيشيّ الكريم.
نناشدكم أن تضعوا الإنسان في صلب السّياسات العامّة: الإنسان الّذي يتألّم، الّذي يعمل، الّذي يربّي أبناءه بعرق جبينه، والّذي ينتظر من دولته أن تكون له سندًا لا عبئًا. فالدّولة الّتي لا تحمي مواطنيها، تفقد معناها، وتخسر مبرّر وجودها.
ونناشدكم بروح الميلاد، أن تختاروا المصالحة لا الانقسام، والحوار لا التّعطيل، والمصلحة العامّة لا المصالح الضّيّقة. فالوطن لا يُبنى بالغلبة، ولا يُدار بالخصومات الدّائمة، بل بالتّلاقي، وبالعمل المشترك، وبالقدرة على تقديم التّنازلات المتبادلة من أجل لبنان. إنّ التّاريخ لا يرحم، والأجيال المقبلة ستحاسب. والميلاد اليوم يضعنا جميعًا، مسؤولين ومواطنين، أمام سؤال واحد: ماذا فعلنا بالوطن الّذي أُعطي لنا أمانة؟ فليكن جوابكم أفعالًا تليق بالثّقة، وتُعيد الأمل، وتفتح باب المستقبل.
6. لا بدّ من تناول موضوعين أساسيّين في رسالة الكنيسة: التّربية والاستشفاء.
تُشكّل المدارس الكاثوليكيّة في لبنان الرّأسمال التّربويّ الحقيقيّ للوطن. لا يَقتصِر دورُها على التّميّز الأكاديميّ فحسب، بل يمتدّ ليشمل التّربية على القيم الرّوحيّة والإنسانيّة والأخلاقيّة، وثقافة السّلام، وروح المواطنيّة، واحترام التّعدّديّة، في إطار رؤية تربويّة إنسانيّة شاملة، ما يجعل منها ثروةً فعليّةً للكنيسة وللبنان على حدّ سواء.
عددها ثلاثمائةٍ وعشر مدارس موزّعة على كامل الأراضي اللّبنانيّة. وتضمّ ما يقارب مئتي ألف تلميذ، ثلثهم من غير المسيحيّين، وخمسة عشر في المئة منهم في التّعليم المجّانيّ، موزّعين على تسعين مدرسة مجّانيّة، تقع غالبيّتها في المناطق الجبليّة والأطراف حيث لا وجود لمدارس رسميّة أو خاصّة.
لقد صمدت المدرسة الكاثوليكيّة في وجه الأزمات المتعاقبة، وصولًا إلى الحرب الأخيرة الّتي حوّلت بعض القرى إلى خراب ودمار. ومع ذلك، استمرّت هذه المدارس في احتضان أبنائها، فآوتهم عند الحاجة، وتابعت أوضاعهم خلال النّزوح.
إلّا أنّ هذه المدارس، كسائر القطاع التّربويّ الخاصّ، ما زالت تواجه تحدّيات مصيريّة، أبرزها:
1- أزمة ماليّة خانقة ناجمة عن الانهيار الاقتصاديّ، وضعت المدارس أمام مطالب معيشيّة محقّة للمعلّمين وضرورة تطبيق القوانين والمراسيم النّافذة، في مقابل عجزٍ متفاقم لدى شريحة واسعة من الأهالي عن تسديد الأقساط المدرسيّة، ما يهدّد يومًا بعد يوم استمراريّة رسالة الكنيسة التّربويّة.
2- غموض مصير تعويضات وتقاعد المعلّمين الحاليّين والمتقاعدين، الأمر الّذي يستدعي وفاء الدّولة بالتزاماتها، والإفراج عن أموال المؤسّسات التّربويّة الخاصّة، وتسديد الدّيون المتراكمة عليها.
3- الإقفال التّدريجيّ لعدد كبير من المدارس المجّانيّة نتيجة تقصير الدّولة في دفع مستحقّاتها المتراكمة منذ عام 2019، ووفق نظام يحدّد قيمة مساهمة الدّولة بنحو عشر دولارات سنويًّا عن كلّ تلميذ. إنّ فقدان هذا النّوع من المدارس يعرّض البلاد لخطر اجتماعيّ وتربويّ كارثيّ.
4- التّأخّر في تشكيل المجالس التّحكيميّة حتّى تاريخه، رغم الوعود المتكرّرة، والّتي من شأنها إعادة انتظام العلاقة بين المدرسة والأهل على أسس قانونيّة عادلة.
5- الإفتقاد الى تشريع عصريّ وعادل مبنيّ على روح تشاوريّة، يعطي كلّ ذي حقّ حقّه.
7. تعدّ المستشفيات في لبنان الرّكيزة الأساسيّة للنّظام الصّحّيّ وهي تلعب دورًا محوريًّا يتجاوز تقديم العلاج ليشمل الحماية الاجتماعيّة والأمن الصّحّيّ، وهي تؤمّن الرّعاية العلاجيّة والجراحيّة والخدمات الطّبّيّة المتقدّمة من عمليّات جراحيّة معقّدة إلى علاجات متطوّرة، وتمثل خطّ الدّفاع الأوّل في مواجهة الحروب والأوبئة والكوارث الكبرى، وتعمل المستشفيات الجامعيّة الكبرى كأدوات تعليميّة لتخريج الأطبّاء والممرّضين ممّا يحافظ على جودة الكوادر الطّبّيّة اللّبنانيّة.
المستشفيات الخاصّة تمثل 80% من القطاع الاستشفائيّ ولقد أثبتت خلال الأزمات والحروب المتلاحقة جدارتها في تحمل مسؤوليّاتها، ولقد نجحت في اجتياز الأزمة الاقتصاديّة بأقلّ ضرر ممكن بالتّعاون مع الهيئات الصّحّيّة الرّسميّة والخاصّة والخيّرين، لكنّها لا زالت ترزح تحت وطأة الأعباء والأكلاف المادّيّة الكبيرة من أجور ورواتب وطاقة وغلاء المستلزمات الطّبّيّة وغلاء المعيشة، وتعرفات لا تعكس الكلفة الحقيقية للأعمال الطّبّيّة والاستشفائيّة، وهي تحاول بالتّفاوض مع الهيئات الرّسميّة والخاصّة الحصول على بدل عادل لهذه الأعمال، ونرجو أن تتجاوب هذه الهيئات مع مطالبها المحقّة كي تستمرّ هذه المؤسّسات في تقديم نوعيّة خدمات استشفائيّة جيّدة ومميّزة.
8.في ختام هذه الرّسالة، نسأل الطّفل الإلهيّ أن يحيي في قلوبنا فضيلة الرّجاء، ويمنحنا النّعمة لنكون "صانعي السّلام".
وُلد المسيح، هلّلويا!".
