لبنان
02 كانون الثاني 2024, 06:55

عودة: أملنا أن يكون العام 2024 عام خلاص لبنان من جميع جراحه وندوبه

تيلي لوميار/ نورسات
في ذكرى ختانة ربنا يسوع المسيح بالجسد وتذكار الجليل في القدّيسين باسيليوس الكبير ورأس السّنة، ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده خدمة القدّاس الإلهيّ في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس في ساحة النّجمة.

بعد قراءة الإنجيل المقدّس ألقى عوده العظة التّالية: "أحبّائي، تعيّد الكنيسة اليوم لختانة الرّبّ يسوع بالجسد، وللقدّيس باسيليوس الكبير. أمّا العالم فيحتفل ببداية سنة جديدة نسأل الله أن تكون مباركةً وتحمل لنا السّلام والخير والطّمأنينة.  

في اليوم الثّامن بعد ميلاده تمّم يسوع ناموس العهد القديم اليهوديّ، لأنّه ولد وعاش في تلك البيئة وحفظ قوانينها وعاداتها. المسيح لم يأت لينقض النّاموس بل ليكمّله، لذا ارتضى أن يقبل الختان مؤكّدًا على اتّخاذه الطّبيعة البشريّة.  

لقد ارتبط الختان بالصّلاح والتّقوى وطاعة النّاموس، وهو يشير إلى اليهوديّ الطّاهر. وكلّ إنسان غير مختتن كان يعتبر نجسًا أو غير طاهر.  

الختان وعدمه هما مفهومان وممارستان متناقضتان اعتمد الأولى اليهود والثّانية الأمم الوثنيّة. طقس الختان كان جرحًا مؤلمًا ويسبّب النّزف، خصوصًا بالطّريقة الّتي كان يتمّ بها في تلك الأيّام. كلمة الله لإبراهيم الّتي بها تأسّس الختان تظهر السّبب الأساسيّ له: "يكون (الختان) علامة عهد بيني وبينكم" (تك 17: 11). هذا يعني أنّ الختان كان اتّفاقًا بين الله وشعبه الخاصّ، عهدًا ثبّت بالدّمّ. أمّا في العهد الجديد فقد ثبّت اتّفاق الله مع البشر بدم المسيح. بحسب الآباء، لم يكن الختان عهدًا، بل كان علامةً على العهد والاتّفاق. يقول القدّيس إبيفانيوس إنّ الختان كان بمثابة ختم على أجساد شعب الله، يذكّرهم ويضبطهم ليبقوا على "إيمان آبائهم".  

لقد كان الختان تهيئةً للمعموديّة الّتي ستمنح في الوقت المناسب من خلال تجسّد ابن الله وكلمته، إذ إنّ المعموديّة في الحقيقة هي ختان القلب.  

لقد خضع المسيح للختان لأنّه هو نفسه معطي النّاموس في العهد القديم، وقد احترم النّاموس ولم ينقضه، بل جاء ليحفظه، لا بل ليرفعه. قبل المسيح الختان لكي يظهر أنّه اتّخذ طبيعةً بشريّةً حقيقيّة، وهذا أمر مهمّ جدًّا، لأنّ هرطقةً ظهرت في القرون الأولى تدّعي أنّ المسيح لم يتّخذ الطّبيعة البشريّة الحقيقيّة ولا جسدًا بشريًّا حقيقيًّا، بل كان جسده ظاهريًّا خياليًّا. هذا أدّى إلى الاستنتاج بأنّ المسيح لم يصلب.  

يأتي تذكار ختانة المسيح بين عيدي التّجسّد والظّهور الإلهيّين، كما يعلّم القدّيس إبيفانيوس، لأنّ ختان الجسد حضّر الإنسان وخدمه إلى حين المعموديّة الّتي هي الختان الأعظم، لأنّنا نتحرّر بواسطتها من الخطايا ونختم باسم الله، أيّ نصبح منتمين له. يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم إنّ ختان الجسد فصل اليهود عن الأمم، أمّا المعموديّة المقدّسة فيتميّز من خلالها المؤمنون عن سواهم.  

لم يطع المسيح النّاموس فقط، بل نسمع في إنجيل اليوم أنّه نزل مع أمّه ويوسف إلى النّاصرة وكان خاضعًا لهما، ثمّ نسمع أنّه "كان يتقدّم في الحكمة والسّنّ والنّعمة عند الله والنّاس". إنّ الطّاعة أساس للحكمة والنّعمة. كثيرًا ما نسمع في زمننا عن أولاد يهينون أهلهم بسبب ملاحظة تكون لبنيانهم، أو يشتكون على أساتذتهم إذا أبدوا تجاههم قسوة المربّي من أجل إفادتهم، لأنّ معظم المجتمعات تضرب عرض الحائط بالقيم الأخلاقيّة والتّربويّة، فاتحةً مجال الحرّيّة المطلقة أمام الأولاد قبل أن تنشئهم على احترام القيم ومبادئ المحبّة والأخوّة والتّضحية والتّسامح وقبول الآخر واحترامه. كذلك نعاين ما يحدث حولنا من جنون في قيادة الدّرّاجات النّاريّة التي لا يحترم سائقوها لا البشر ولا القوانين، ومن حوادث سير تودي بحياة الشّباب والشّابّات، بسبب عدم طاعتهم لأهلهم وعدم احترام قوانين السّير، والقيادة بتهوّر، أو التّلهّي بهواتفهم المحمولة، غير آبهين بأرواحهم وبأرواح الآخرين، وغير حاسبين لحزن ذويهم على فقدانهم حسابًا، لأنّهم لم يدركوا حدود حرّيتهم ولا قيمة الحياة الممنوحة لهم. عدم الطّاعة يؤدّي إلى الأنانيّة، بينما الطّاعة الّتي علّمنا إيّاها الرّبّ يسوع تظهر المحبّة الكاملة، هو الّذي أطاع الآب حتّى موت الصّليب، لكي يعتقنا من آثامنا، لأنّه هكذا أحبّنا فبذل نفسه من أجلنا، بعد أن تجسّد وخضع لنواميس الطّبيعة.  

يا أحبّة، ها نحن ندخل عامًا أرضيًّا جديدًا، بعدما ودّعنا سنةً دمويّةً شهدنا خلالها الكثير من الأحداث المؤلمة على صعيد الوطن والعالم. أمّا الطّامة الكبرى في هذا البلد فهي الاعتياد على الفراغ في موقع الرّئاسة، الّذي يتأصّل عامًا بعد عام، وغياب مسؤول مطيع لدستور بلاده يقف عكس التّيّار السّائد، ويعلي الصّوت داعيًا إلى صون القانون واحترام الدستور. عدم تطبيق دستور البلد أصبح دستورًا بذاته، كرّسته بعض الجماعات المنتمية جسديًّا فقط إلى هذه الأرض، بينما عقولها وقلوبها ومصالحها متعلّقة برايات ترفرف خارج ربوع وطن جرّحته الانقسامات، ونهشته المطامع، وسوّدت صفحته أسماء ووجوه ما عاد اللّبنانيّون يرغبون في رؤيتها أو يقبلون بتمثيلها لهم. أملنا أن يكون العام 2024 عام خلاص لبنان من جميع جراحه وندوبه، وعام فتح مجلّد جديد في تاريخه، لا يحتوي إلّا على سير محبّي هذا البلد، والعاملين من أجل صون كلّ ذرّة من ترابه وكلّ مادة من دستوره وكلّ فرد من شعبه.  

يقال إنّ القدرة تكمن في الإرادة وهذا صحيح لأنّ الإنسان الّذي ينوي أو يقرّر عمل شيء لا بدّ من أن يستطيع القيام به. فعندما أراد مجلس النّوّاب تمديد مدّة خدمة قائد الجيش حفاظًا على المؤسسة العسكريّة، وعلى الاستقرار الأمنيّ، اجتمع وصوّت ونجح في ما أراد. فلم لا يقرّر هذا المجلس انتخاب رئيس، ويجتمع وينتخب رئيسًا للبلاد من أجل استقرار البلد بكامله، ومن أجل ملء كلّ شغور وتسيير عمل كلّ إدارة؟ هذا يعني أنّ لا إرادة في ذلك وإلّا لكان لنا رئيس منذ أكثر من سنة، في الموعد الّذي يحدّده الدّستور، يحفظ الاستقرار السّياسيّ. فعوض اللّجوء إلى حلول مجتزأة أو مؤقّتة يهرع إليها عند كلّ شغور في مركز أو إدارة، أليس من الحكمة انتخاب رئيس للبلاد تكتمل معه كلّ النواقص؟  

نصلّي اليوم من أجل أن يكون العام الجديد عام خير وسلام وبركة، يحمل معه الأمل والصّحّة والفرح للجميع. نصلّي كي يمنحنا الرّبّ نعمه لكي نعرف كيف نحافظ على أنفسنا بعيدًا عن الخطيئة، وعلى بلدنا بعيدًا عن الأذى. كما نصلّي من أجل إخوتنا في القرى الجنوبيّة وفي فلسطين الّذين ما زالوا تحت القصف واللّاإنسانيّة، سائلين لهم السّلام.  

وفي هذا العيد لا يمكننا ألّا نتذكّر ضحايا تفجير مرفأ بيروت وذويهم، وجميع الّذين أصيبوا في أجسادهم أو ممتلكاتهم، ولم يحصلوا بعد على العدالة الواجبة تجاههم وتجاه بيروت، لأنّ السّلطة السّياسيّة وسلطة الأحزاب والزّعامات أقوى من سلطة القضاء المقموع منها، الّذي لم يتمكّن من استكمال التّحقيق وفرض العدالة.  

بارك الله أيّامكم جاعلًا إيّاها أيّام توبة وخلاص وتذوّقًا مسبقًا للملكوت، آمين".