لبنان
26 شباط 2024, 11:50

عوده: الرّبّ لا يطلب منّا كلام فلسفةٍ حين نصلّي، بل يريد أن نسلّمه ذواتنا، فيسلّمنا هو النّعمة والخلاص

تيلي لوميار/ نورسات
تراّس راعي أبرشيّة بيروت للرّوم الأرثوذكس المتروبوليت الياس عوده قدّاس الأحد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس في وسط بيروت. وبعد تلاوة الإنجيل المقدّس، ألقى عظة قال فيها:

"بإسم الآب والابن والرّوح القدس، آمين.

أحبّائي، تدخل كنيستنا المقدّسة اليوم في فترة التّهيئة للصّوم الأربعينيّ المقدّس، زمن الإبحار في جهاد التّوبة وتنقية الذّات، وصلب الإنسان العتيق مع شهواته من أجل الإشتراك في قيامة الرّبّ يسوع المسيح من بين الأموات، وقيامة الإنسان الجديد لحياةٍ جديدة. تمتدّ هذه الفترة على أربعة آحادٍ، تبدأ اليوم بأحد الفرّيسيّ والعشّار، يتبعه أحد الإبن الشّاطر، ثمّ يأتي أحد الدّينونة، فأحد طرد آدم من الفردوس، قبل أن نلج رحلة الصّيام الأربعينيّ المقدّس نحو القيامة البهيّة.

في الأحد الأوّل من هذا الزّمن اللّيتورجيّ المبارك، تضعنا كنيستنا المقدّسة أمام مثل الفرّيسيّ والعشّار حيث «إنسانان صعدا إلى الهيكل ليصلّيا» الأوّل فريسيّ متشامخ والثّاني عشّار وقف من بعيدٍ يقرع صدره بتواضعٍ فرفعه الله وأعاده إلى بيته مبرّرًا.

دخل الإثنان الهيكل ليصلّيا كأيّ يهوديٍّ يمارس طقوس ديانته، لكنّ الفريسيّ لم يصلّ، بل كان يتبجّح بأعماله التّقويّة: «أللهمّ إنّي أشكرك لأنّي لست كسائر النّاس ... فإنّي أصوم في الأسبوع مرّتين وأعشّر كلّ ما هو لي». كانت أفكاره تحرّك شفتيه لا قلبه. هذه الأفكار جعلت الفرّيسيّ يظنّ أنّه ليس «كسائر النّاس»، واعتدّ بنفسه معتبرًا أنّه أفضل منهم جميعًا. أمّا العشّار فقد عرف أنّ الصّلاة الحقيقيّة هي تلك النّابعة من قلبٍ تائبٍ، لذلك كان "يقرع صدره قائلاً أللهمّ ارحمني أنا الخاطئ". يقول القدّيس إسحق السّريانيّ: "إنزل إلى داخل قلبك وهناك ستجد السّلّم الّتي تقودك إلى ملكوت الله."

يعلّم الآباء القدّيسون أنّ على الإنسان ألّا يفكّر إطلاقًا، عند الصّلاة، بل أن يصبح مجرّدًا من ذاته، متحرّرًا من كلّ اهتمامٍ دنيويٍّ. عندما نصلّي، علينا أن نشعر أنّنا مع الله ولا أحد سوانا في الكون. علينا ألّا ننشغل بذواتنا لأنّ ذلك يجعلنا مستغرقين في حاجاتنا الذّاتيّة، فنتلف صلاتنا بأنفسنا، ونعرقلها.يقول الشّيخ تدّاوس الصّربيّ أنّ أصغر حبّةٍ من الغبار يمكن أن تغشّي بصرنا، وأصغر همٍّ يعيق تركيزنا في الصّلاة.

الصّلاة من القلب صادقة. هي توق وحنين لمخاطبة الله والوصول إليه. من خلالها يضع الإنسان كلّيّته أمام الرّبّ تقدمةً وقربانًا. فإمّا تكون وقفةً متشامخةً كبريائيّةً كوقفة الفرّيسيّ، وإمّا ركعةً مستغفرةً طالبةً الرّحمة كموقف العشّار التّائب والعارف خطاياه، الأمر الّذي أوصله إلى التّواضع أمام الله.

الرّبّ لا يطلب منّا كلام فلسفةٍ حين نصلّي، بل يريد أن نسلّمه ذواتنا، فيسلّمنا هو النّعمة والخلاص. كثيرًا ما نقع في شرك الصّلاة بالشّفاه فقط، وغالبًا ما نسرع في الصّلوات لكي نفرغ منها بأسرع وقتٍ ونعود إلى اهتماماتنا الدّنيويّة الزّائلة، فنفقد سلامنا الدّاخليّ وتكون صلاتنا غير نافعة.

الصّوم والصّلاة هما وسيلتان لتجميل أرواحنا وإعادتها إلى حالتها الأصليّة. في هذا الزّمن المبارك، لا بدّ لنا من أن نجاهد لاكتساب صفات المسيح مخلّصنا. نحن نعلم أنّه كان وديعًا ومتواضعًا وصالحًا، وعلينا أن نحاول الإقتداء به، كما قال لنا: "تعلّموا منّي فإنّي وديع ومتواضع القلب" (مت 11: 29). لكن، لا قوّة لنا للقيام بذلك من تلقاء أنفسنا، لذلك علينا أن نطلب معونة الرّبّ. فكما أنّ المصباح الكهربائيّ لا يعطينا الضّوء من دون طاقةٍ كهربائيّة، هكذا نحن لا نستطيع عمل شيءٍ من دون نعمة الله ومؤازرته كما قال: "من دوني لا تستطيعون شيئًا" (يو 15: 5).

كثيرون يأتون إلى الكنيسة لمساومة الرّبّ، كما فعل الفرّيسيّ في صلاته، فيمنّنونه إذا صاموا أو صلّوا قليلًا في المنزل، ويلومونه إن لم يلبّ مطالبهم مع أنّهم صلّوا وصاموا. كثيرون أيضًا ممّن يحتلّون مراكز قياديّةً يمنّنون البلد إن هم قاموا بعملٍ هو من صلب واجباتهم، ويتناسون أنّهم مقصّرون في الكثير منها. يتعالون ويدينون غيرهم ويطلقون الأحكام كالفرّيسيّ الذي، بعد تشامخه عاد إلى بيته خائبًا.

لو تواضع من توالوا على الحكم، ولو عملوا من أجل مصلحة لبنان هل كنّا وصلنا إلى هذا التّحلّل في السّلطة؟ 

ليكن ما وصلنا إليه درسًا لكلّ مسؤولٍ يتبوأ مركز قيادةٍ أنّ عليه الخروج من أناه وكبريائه، والعمل من أجل الخير العامّ بتواضعٍ وتفانٍ ونزاهةٍ، وعدم إهمال شؤون النّاس لأنّهم سبب وجوده في المسؤوليّة وغاية هذا الوجود. إنّ عجز من في يدهم السّلطة والقرار عن اتّخاذ المواقف الحكيمة أو القيام بما يصبّ في مصلحة البلد هو ما قادهم إلى الفشل وأبعدهم عن الشّعب الذي يشعر أنّ الدولة أسلمت القياد واستسلمت، وأنّ الجميع ينتظر الخارج فيما الخارج، إلى كونه منشغلاً بقضاياه ويعمل من أجل مصلحته، قد أصابه القرف وملّ من مشاكلنا، ومن تعنّت البعض والتّمسّك بمصالحهم، وانحراف البعض الآخر وتخطّي الدّستور، ووضع أطرافٍ أخرى الشّروط التّعجيزيّة، عوض أن يلتفّ الجميع حول مصلحة بلدهم كما تفعل سائر البلدان، ويجترحوا الحلول المناسبة لإخراج لبنان من مأزقه، وإبعاد السّياسة عن القضاء ليعمّ العدل، وإصلاح الوضع الماليّ والاقتصاديّ، والحفاظ على الأمن داخل الحدود، وعلى حياة المواطنين كي لا يموتوا وأطفالهم، كما عليهم عدم الاستهتار بواجبهم كما شهدنا عند التّصويت على بنود الموازنة وبعضهم كان يجهل مضمونها. 

ذكاء الحكّام ونزاهتهم ينهضان بالبلد ويضعانه في مصاف الدّول النّاجحة. أنظروا حولنا. بعض الدّول التي تشارك الآن في تقرير شؤوننا كانت تحلم أن تصبح مثلنا في أيّام ازدهار بلدنا، فإذا بها تتفوّق علينا بفضل حكّامٍ رؤيويّين ونظيفيّ الكفّ، رفعوها إلى أعلى المصاف.

أمّا الّذين يقفون موقف العشّار في حياتهم الرّوحيّة، فهم يعرفون أنّ الله يعلم كلّ شيءٍ، وهو على درايةٍ بكلّ ضعفاتهم واحتياجاتهم، لذلك لا يضيّعون وقت الصّلاة بالمساومة ولا بالطّلبات، بل يغتنمون الفرصة ليظهروا توبةً وخشوعًا، ويقدّموا شكرًا لله على عطاياه.

اليوم، تضعنا كنيستنا في مواجهة خطايانا، منبّهةً ومعلّمةً إيّانا أن نصلّي بقلبٍ نقيٍّ متخشّعٍ ومتواضعٍ، لتكون صلاتنا ذبيحةً مقبولةً، وبخورًا زكيًّا أمام الرّبّ، كما نرتّل في صلواتنا: "لتستقم صلاتي كالبخور أمامك، وليكن رفع يديّ ذبيحةً مسائيّة"، آمين."