لبنان
17 تشرين الثاني 2025, 08:50

عوده: الله قادر أن يحوّلنا ويحوّل بلدنا إن وثقنا به ووضعنا فيه رجاءنا

تيلي لوميار/ نورسات
أحيا متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الياس عوده ذكرى القدّيس متّى الإنجيليّ خلال قدّاس الأحد، ترأّسه في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس- وسط بيروت.

وبعد الإنجيل المقدّس، كان لعودة عظة قال فيها: "أحبّائي، إذ نحتفل اليوم بذكرى القدّيس متّى الإنجيليّ، تدعونا الكنيسة للنّظر في سرّ الدّعوة الإلهيّة، وفي نعمة التّغيير الّتي تصنعها كلمة الرّبّ في قلب الإنسان حين يفتح لها بابه. فالمقطع الإنجيليّ الّذي سمعناه يظهر لنا المخلّص مجتازًا على شاطئ بحر الجليل، وإذ رأى متّى جالسًا على مائدة الجباية، نظر إليه بعين الرّحمة، وقال له: "اتبعني"، فقام متّى وتبعه. كلمة واحدة ونظرة واحدة هزّتا كيان رجل غارق في حبّ المال وجمع الضّرائب، محتقر من أبناء قومه، فتحوّل في لحظة من جابي ضرائب إلى تلميذ ورسول وإنجيليّ. هذه ليست حكايةً من الماضي، بل إعلان دائم عن قدرة الكلمة الإلهيّة حين تلقى في قلب مستعدّ لقبول النّعمة.

لم يدع المسيح متّى لأنّه كان صالحًا أو مستحقًّا، إنّما لأنّ رحمته تسبق استحقاق الإنسان. الدّعوة الإلهيّة ليست مكافأةً على الفضيلة، لكنّها نعمة تلد الفضيلة. يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ: "لم ينتظر الرّبّ أن يظهر متّى توبةً أو يقدّم عذرًا، بل دعاه وهو بعد في موضع الخطأة، لكي يظهر أنّه هو الّذي يخلق التّوبة في القلب بدعوته".

إستجاب متّى فورًا، تاركًا كلّ شيء، لأنّ قلبه لمس في تلك النّظرة نورًا جديدًا. الطّاعة الفوريّة هنا هي ثمرة الثّقة بالمسيح أكثر منها ثمرة الفهم الكامل. إنّها طاعة المحبّة الأولى الّتي تنتج من دهشة اللّقاء مع النّعمة.

دخل الرّبّ بيت متّى، وجالس العشّارين والخطأة، فثار الفرّيسيّون لأنّهم رأوا في هذا الفعل تعدّيًا على طهارتهم المزعومة. فأتاهم جواب الرّبّ حاسمًا: "لا يحتاج الأصحّاء إلى طبيب بل ذوو الأسقام... إنّي أريد رحمةً لا ذبيحةً... لم آت لأدعو صدّيقين بل خطأةً إلى التّوبة". هنا، نعاين جوهر البشارة المسيحيّة. الله لا يطلب من الإنسان كمالًا قبل أن يدعوه، بل يدعوه ليكمّله. لا يشمئزّ من ضعف الإنسان، بل يقترب منه كطبيب محبّ يضع يده على المريض ليشفيه.

رسالة اليوم تؤكّد هذه الحقيقة. يقول الرّسول بولس: "إنّ الله قد أبرزنا نحن الرّسل آخريّ النّاس كأنّنا مجعولون للموت. لأنّا قد صرنا مشهدًا للعالم والملائكة والبشر". يصف بولس حال الرّسل الّذين تركوا كلّ شيء وتبعوا المسيح، محتملين الاضطهاد والعار والفقر، ليصيروا شهودًا للحقيقة الّتي لا تشترى ولا تباع.

إذا تأمّلنا في مسيرة متّى بعد دعوته، نجد فيها تحقيقًا حرفيًّا لكلام بولس. فالّذي كان يجلس في موضع الغنى صار يعيش الفقر لأجل الغنى السّماويّ، والّذي كان جابيًا للضّرائب صار يجبي نفوسًا للملكوت، والّذي كان يتّخذ من القلم أداةً للظّلم صار يستعمله أداةً للبشارة.

حياة الإنجيليّ متّى تذكّرنا بأنّ الرّبّ قادر أن يحوّل الخاطئ إلى قدّيس، والمستهان به إلى شاهد للنّعمة. وما يدعونا إليه اليوم هو أن نسمع نحن أيضًا صوته القائل: "إتبعني". قد لا نكون عشّارين حرفيًّا، لكنّ كلًّا منّا يجلس في "مكان جبايته" الخاصّ، في همومه وأهوائه وأنانيّته وانشغاله بالدّنيويّات، فيأتي إليه المسيح داعيًا إيّاه للخروج من ذاته واتّباع الطّريق الحقيقيّ. هنا نفهم أيضًا قول بولس: "أطلب إليكم أن تكونوا مقتدين بي". فالرّسول لا يدعو إلى تمجيد ذاته، بل إلى الاقتداء بمسيرة التّلمذة، أيّ بترك الماضي وأثقاله والاتّكال على النّعمة. تلميذ المسيح الحقّ هو من يلبّي النّداء كلّ يوم، ولا يتوقّف عن المسير رغم المشقّات.

متّى، بعدما تبع الرّبّ، لم يكتف بالشّهادة بالكلمة، بل ختم حياته بالدّمّ، إذ نال إكليل الشّهادة في سبيل البشارة، فصار من الّذين "تكمّل قوّتهم في الضّعف" (2كو 12: 9). أصبح نموذجًا للتّلميذ الحقيقيّ، أيّ إنسانًا إختبر رحمة الله، وتحوّل من خاطئ إلى كارز، ومن جابي مال إلى جابي نفوس للملكوت.

يا أحبّة، الله الّذي دعا متّى، وغيّر بولس وحوّل الخطأة إلى قدّيسين، قادر أن يحوّلنا نحن أيضًا رغم ضعفاتنا وأن يحوّل بلدنا رغم مشاكله الكثيرة، إن وثقنا به ووضعنا فيه رجاءنا.إنّه يدعونا اليوم من خلال كلمته وكنيسته وقدّيسيه. إنّه يدخل بيوتنا كما دخل بيت العشّار، ويجلس معنا رغم خطايانا، ليرفعنا منها إليه. فلنفتح له قلوبنا كما فتح متّى بيته، ولنقبل حضوره الّذي لا يخجل من الضّعف بل يحوّله إلى نعمة، آمين."