لبنان
11 آذار 2024, 12:05

عوده: دعوتنا اليوم أن نرى المسيح في كلّ إنسانٍ حولنا

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس راعي أبرشيّة بيروت للرّوم الأرثوذكس المتروبوليت الياس عوده قدّاس أحد مرفع اللّحم من كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس في وسط بيروت، وبعد تلاوة الإنجيل المقدّس ألقى عظة قال فيها:

"باسم الآب والابن والرّوح القدس، آمين.

أحبّائي، بعدما علّمتنا كنيستنا المقدّسة فضيلتي التّواضع والتّوبة مع مثلي الفرّيسيّ والعشّار والإبن الشّاطر، تعلّمنا اليوم أنّ الفضائل الرّوحيّة يجب أن تتوّج بعمل الإحسان والبرّ تجاه المهمّشين والفقراء والمعوزين والحزانى.

يشكّل إنجيل اليوم جزءًا من جواب الرّبّ يسوع لتلاميذه عن سؤالهم: «ما هي علامة مجيئك وانقضاء الدّهر؟» (مت 24: 3). في معرض جوابه، يشدّد الرّبّ على أنّ الأهمّ هو أن يكون المؤمن مستعدًّا للقاء الرّبّ متى جاء في مجده، وذلك في وقتٍ لا يعرفونه، ثمّ شرح لهم كيفيّة الاستعداد. بدايةً، ضرب لهم مثل العذارى العشر (مت 25: 1-13) حيث العذارى الخمس العاقلات حملن زيتًا للمصابيح فأعطي لهنّ الدخول إلى العرس. والزّيت هو أعمال الرّحمة بحسب الإنجيليّ متّى، حيث نقرأ: "فليضئ نوركم هكذا قدّام النّاس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجّدوا أباكم الّذي في السّماوات" (5: 16). أمّا الجاهلات اللّواتي لم يكنّ مستعدّاتٍ وأهملن الزيت فبقين في الخارج. والحكمة: «إسهروا إذاً لأنّكم لا تعرفون اليوم ولا السّاعة التي يأتي فيها ابن الإنسان» (مت 25: 13). بعد ذلك، أخبرهم مثل الوزنات (مت 25: 14-30) داعيًا سامعيه إلى تثمير المواهب الّتي منحهم إيّاها الله وتفعيلها، وقد نلنا جميعًا تلك المواهب عند المعموديّة. أخيرًا، شرح الرّبّ لتلاميذه ما هي أعمال الرّحمة والمواهب التي عليهم تفعيلها فقال لهم: "جعت فأطعمتموني وعطشت فسقيتموني وكنت عريانًا فكسوتموني ومريضًا فعدتموني ومحبوسًا فأتيتم إليّ". إذًا، الاستعداد للمجيء الثّاني والدّينونة يكون عبر أعمال الرّحمة الّتي نعملها مع «إخوة يسوع الصّغار» الفقراء والمحتاجين إلى رحمة الرّبّ.

لقد قال الرّبّ في بداية عظته على الجبل: "من عمل وعلّم فهذا يدعى عظيمًا في ملكوت السّماوات" (مت 5: 19)، وينهيها قائلًا: "ليس كلّ من يقول لي: يا ربّ، يا ربّ، يدخل ملكوت السّماوات، بل الّذي يفعل إرادة أبي الّذي في السّماوات... فكلّ من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها أشبّهه برجلٍ عاقلٍ بنى بيته على الصّخر" (مت 7: 21 و24). نفهم من كلام الرّبّ أنّ الفضائل الرّوحيّة والأعمال تتكامل. كنيستنا، تعيد قراءة النّصوص المذكورة من إنجيل متّى (الإصحاحين 24 و25) في يوم الثّلاثاء العظيم المقدّس، قبل انطلاق الرّبّ إلى الآلام الخلاصيّة، ويترافق ذلك مع ترتيلنا: "ها هوذا الختن يأتي في نصف اللّيل فطوبى للعبد الّذي يجده مستيقظًا...". هكذا تكون الكنيسة قد ذكّرتنا، قبل الصّوم وفي نهايته، بأنّ أعمال الرّحمة واجب مسيحيّ إذا شئنا أن نرث الحياة الأبديّة ونحصل على الخلاص. لهذا، تأتي قصّة المرأة الزّانية، الّتي سكبت طيبًا على قدميّ الرّبّ يسوع قبل آلامه مباشرةً، بعد مثلي العذارى والوزنات وإنجيل الدّينونة، حيث يقول الرّبّ لتلاميذه: «الفقراء معكم في كلّ حينٍ» (مت 26: 11).

يا أحبّة، نقيم اليوم، في أحد مرفع اللّحم، تذكار المجيء الثّاني لربّنا يسوع المسيح، حين يأتي لدينونة جميع البشر، فنكون إمّا من خراف اليمين أو من جداء اليسار. لذا، تعلّمنا كنيستنا، قبل بداية الرّحلة نحو الفصح المقدّس، أنّ الصّوم يتلازم مع الصّلاة، لكنّه يترافق أيضًا مع الإهتمام بالجائع والعطشان والغريب والعريان والمريض والمسجون، لكي يكون صومًا نافعًا. إنّ تعليم الرّبّ الإهتمام بالمهمّشين والغرباء والفقراء يتناسق مع تعليم أنبياء العهد القديم الملهم من الرّوح القدس، عن وجوب الإهتمام بالفقير واليتيم والغريب والأرملة. نسمع الرّبّ قائلًا على لسان النّبيّ إشعياء: "حين تبسطون أيديكم أستر عينيّ عنكم، وإن أكثرتم الصّلاة لا أسمع. أيديكم ملآنة دمًا. إغتسلوا، تنقّوا، إعزلوا شرّ أفعالكم من أمام عينيّ، كفّوا عن فعل الشّر. تعلّموا فعل الخير، أطلبوا الحقّ، أنصفوا المظلوم، أقضوا لليتيم، حاموا عن الأرملة. هلمّ نتحاجج يقول الرّبّ، إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيضّ كالثّلج" (1: 16-18). هذا المقطع نرتّله يوم سبت النّور مع ترنيمة: "قم يا الله واحكم في الأرض، لأنّك ترث جميع الأمم"، لأنّنا إن عملنا الرّحمة مع المحتاجين، نساهم في إرساء حكم الرّبّ في الأرض، وحكمه هو المحبّة والسّلام والرّحمة.

الجديد في تعليم الرّبّ أنّه ماهى نفسه مع المستضعفين والمعوزين قائلًا: "بما أنّكم فعلتم ذلك بأحد إخوتي هؤلاء الصّغار فبي فعلتموه". لقد وحّد الرّبّ نفسه مع أولئك، جاعلًا إيّاهم بابًا من أبواب الملكوت، وهذا الباب يحتاج منّا جهادًا ليفتح. لذا، دعوتنا اليوم أن نرى المسيح في كلّ إنسانٍ حولنا، علّنا نكون من ورثة الملكوت، ومن خراف اليمين.

هذا الكلام موجّه إلى كلّ إنسانٍ يبتغي وجه الله الذي خلق الإنسان، كلّ إنسانٍ، على صورته ومثاله. ومن أراد اتباع تعاليم المسيح والسّير بحسب مشيئته، عليه أن يكرّم الله في وجه كلّ إنسان. أليس هذا واجب كلّ مسؤولٍ أيضًا، أن يحسن تجاه وطنه بحسن معاملته لكلّ مواطن؟ أليست دعوةً إلى المساواة بين النّاس، وإلى خدمة الوطن عبر خدمة كلّ مواطن؟ وهل من خدمةٍ أفضل من تأمين العيش الكريم للمواطن في وطنٍ آمنٍ ومستقرّ؟ لكنّ المواطن يئنّ وذوو السّلطة يعيشون في عالمٍ بعيدٍ عن الواقع، في غياب رئيسٍ لم ير النّوّاب ضرورةً لانتخابه. ما شجّعهم على ذلك تقاعس المواطنين عن القيام بواجب مساءلتهم ومحاسبتهم. فعندما يقترع إنسان لنائبٍ فلأنّه اقتنع ببرنامجه وصدّق وعوده. أليس من واجبه بعد حينٍ مساءلته حول ما وعد به؟ أليس هذا من صميم الحياة الدّيمقراطيّة؟ لذا حاسبوا نوّابكم لتقويم أدائهم. حاسبوهم على تقاعسهم في أداء واجباتهم التي يفرضها الدّستور. وأوّل هذه الواجبات انتخاب رئيسٍ للبلاد. هل حاسب مواطن نائبًا على تخلفه عن أداء هذا الواجب؟ 

قول كلمة الحقّ أو القيام بعملٍ يرضي الضّمير هي أعمال ضروريّة في حياة الوطن. الشّهادة للحقّ، احترام عمل المؤسّسات الدّستوريّة وإبعادها عن التّجاذبات السّياسيّة، تحاشي النّقاشات العقيمة، المراقبة والمحاسبة، إدانة المحسوبيّة والزّبائنيّة والاستزلام والمحاصصة والتّعطيل والتّسلّط والتّطرّف هي أمور بديهيّة عند من أراد بناء دولة، لكن يبدو أن لا إرادة إصلاحٍ حقيقيّةً في لبنان ولا أحد يريد بناء الدّولة.

نحن بحاجةٍ إلى رجال دولةٍ لا إلى مصطاديّ سلطةٍ يستغلّونها لقهر النّاس وإتمام مصالحم. نحن بحاجةٍ إلى رجال دولةٍ يحكمون لبنان بحكمةٍ وتجرّد، يحافظون عليه سيّدًا حرًّا مستقلاً ولا يسمحون بأيّ تدخّلٍ أو وصايةٍ أو استتباع. كلّ يومٍ يمرّ يزيد حجم الأزمة والوقت لا يستعاد. الوقت يمرّ ويمضي وهجرة الأدمغة تزيد وغير اللّبنانيّين يتكاثرون وقد لا يبقى لبنانيّ ليطبّقوا سياساتهم الفاشلة عليه.

أملنا في أحد الدّينونة أن يفحص كلّ نائبٍ وزعيمٍ وحاكمٍ ضميره ويدين نفسه ويقوّم سلوكه لكي يسمع صوت الرّبّ قائلاً له: أدخل إلى فرح ربّك. آمين."