الفاتيكان
26 شباط 2021, 14:30

كانتالاميسا: ليتحوّل ماء فتورنا إلى خمرة حماسة متجدّدة

تيلي لوميار/ نورسات
تحت عنوان "توبوا وآمنوا بالبشارة"، ألقى واعظ القصر الرّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا صباح اليوم تأمّله الأوّل لزمن الصّوم في قاعة بولس السّادس بالفاتيكان، وقال بحسب "فاتيكان نيوز":

"في إنجيل الأحد الأوّل من زمن الصّوم الكبير، سمعنا الإعلان الّذي بدأ به يسوع خدمته العامّة: "حانَ الوَقتُ وَاقتَرَبَ مَلَكوتُ الله. فَتوبوا وَآمِنوا بِالبِشارَة"، وبالتّالي نريد أن نتأمّل في دعوة المسيح هذه الآنيّة على الدّوام.

يتمّ الحديث عن الارتداد في ثلاث لحظات أو سياقات مختلفة من العهد الجديد. وفي كلّ مرّة يتمّ تسليط الضّوء على مكوّن جديد. ومعًا تعطينا هذه المقاطع الثّلاثة فكرة كاملة عن ماهيّة هذا التّحوّل الإنجيليّ. الإرتداد الأوّل هو الّذي يتردّد صداه في بداية بشارة يسوع والّذي يمكننا أن نلخِّصه في الكلمات: "توبوا وَآمِنوا بِالبِشارَة". لنحاول أن نفهم ما تعنيه كلمة الارتداد هنا. قبل يسوع، كان الارتداد يعني دائمًا "العودة إلى الوراء"، وكان يشير إلى تصرّفات الّذين، وفي مرحلة معيّنة من الحياة، أدركوا أنّهم قد خرجوا عن المسار الصّحيح، فيتوقّفون ويقرّرون العودة إلى الحفاظ على الشّريعة والعودة إلى العهد مع الله. يتغيّر هذا المعنى على شفاه يسوع. ليس لأنّه يستمتع بتغيير معاني الكلمات، ولكن لأنّه ومع مجيئه تغيّرت الأمور. "حانَ الوَقتُ وَاقتَرَبَ مَلَكوتُ الله"، وبالتّالي لم يعد الارتداد يعني العودة إلى الوراء، وإنّما القيام بقفزة إلى الأمام والدّخول إلى الملكوت، والتّمسّك بالخلاص الّذي أتى إلى البشريّة بشكل مجّانيّ، من خلال مبادرة الله الحرّة والمطلقة.

لنصغِ الآن إلى المقطع الثّاني الّذي يتحدّث في الإنجيل عن الارتداد: "وفي تِلكَ السَّاعَة دَنا التَّلاميذُ إِلى يسوعَ وسأَلوه: "مَن تُراهُ الأَكبَرَ في مَلكوتِ السَّمَوات؟" فدَعا طِفلاً فَأَقامَه بَينَهم وقال: "الحَقَّ أَقولُ لَكم: إِن لم تَرجِعوا فتَصيروا مِثلَ الأَطفال، لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّمَوات" (متّى 18، 1- 3). في هذه المرّة، نعم، يعني الارتداد العودة إلى الوراء، وبالتّحديد إلى الطّفولة! ماذا تفترض المناقشة حول من هو الأكبر؟ أنّ الشّاغل الأكبر لم يعد الملكوت، بل مكان المرء فيه، أيّ نفسه، وقد كان لكلّ منهم لقب ما يطمح إليه لكي يكون الأكبر، لكن يسوع نزع الحجاب فجأة، ولم يعد الأمر يتعلّق بالدّخول أوّلاً إلى الملكوت وإنّما بعدم دخوله أبدًا. وما هو الحلّ؟ الإرتداد وتغيير المنظور والاتّجاه بشكل كامل، فما يقترحه يسوع هو ثورة حقيقيّة، وبالتّالي من الضّروريّ أن نزيل المحوريّة عن أنفسنا لكي نعيد التّركيز على المسيح. فيسوع يتحدّث ببساطة عن أكثر من مجرّد عودة إلى الطّفولة. أن يصيروا أطفالاً، بالنّسبة للرّسل، تعني العودة إلى ما كانوا عليه قبل دعوتهم على ضفاف البحيرة: بدون ذرائع، بدون ألقاب، بدون مقارنات فيما بينهم، بدون حسد، بدون تنافس. أغنياء فقط بالوعد "سأجعلكم صيّادي بشر" وبحضور يسوع.

أمّا السّياق الثّالث الّذي تحدث فيه الدّعوة الملحّة إلى الارتداد فتقدّمه لنا الرّسائل السّبعة إلى كنائس سفر الرّؤيا، الموجهة إلى أشخاص وجماعات، مثلنا، يعيشون الحياة المسيحيّة منذ بعض الوقت، ويمارسون فيها دور القيادة. ومن بين هذه الرّسائل السّبعة، تجعلنا الرّسالة إلى الكَنيسَةِ الَّتي بَاللاَّذِقِيَّة، نفكر بسبب لهجتها القاسية: "إِنِّي عالِمٌ بِأَعْمالِكَ، فلَستَ بارِدًا ولا حارًّا. ولَيتَكَ بارِدٌ أَو حارّ! أَمَّا وأَنتَ فاتِر، لا حارٌّ ولا باِرِد، فسأَتَقَيَّأُكَ مِن فَمي... فكُنْ حَمِيًّا وتُبْ". يتعلّق الأمر هنا بالارتداد من الرّداءة والفتور إلى حماسة الرّوح. وفي تاريخ القداسة المسيحيّة، كان القدّيس أوغسطينوس أشهر مثال على هذا الارتداد الأوّل، أيّ من الخطيئة إلى النّعمة. أمّا المثال التّربويّ للارتداد الثّاني، من الفتور إلى الحماسة، فهو القدّيسة تيريزا الأفيليّة، وما تقوله عن نفسها في سيرة حياتها هو بالتّأكيد مبالغ فيه وتمليه عليها رقّة ضميرها، ولكن، على أيّ حال، يمكنه أن يساعدنا جميعًا لكي نفحص ضميرنا.

لنتحدث إذًا عن الارتداد عن الفتور. لقد كان القدّيس بولس يحثُّ مسيحيّي روما بالكلمات التّالية: "إِعمَلوا لِلرَّبِّ بِهِمَّةٍ لا تَفتُر ورُوحٍ مُتَّقد". قد يعترض البعض قائلين: "لكن يا عزيزي بولس، هذه هي المشكلة تحديدًا! كيف ننتقل من الفتور إلى الحماسة إذا انزلق المرء فيه للأسف؟" يولد اعتراضنا من حقيقة أنّه يتمُّ إهمال أو إساءة فهم كلمة "روح". نحن ورثة لروحانيّة تفهم مسيرة الكمال وفقًا للمراحل الثّلاثة الكلاسيكيّة: طريق التّطهير، وطريق الاستنارة، وطريق التّوحيد. بعبارة أخرى، يجب على المرء أن يتدرّب لفترة طويلة في طريق التّخلّي والإماتة قبل أن يختبر هذا الحماس. لكنّها ليست الطّريقة الوحيدة الّتي تتبعها نعمة الله؛ ومخطّط بهذه الصّرامة يشير إلى تحوّل بطيء وتدريجيّ في التّركيز من النّعمة إلى الجهد البشريّ. وفقًا للعهد الجديد، هناك دائريّة وتزامن، لذلك إذا كان صحيحًا أن الإماتة ضروريّة للبلوغ إلى حماسة الرّوح، فمن الصّحيح أيضًا أن حماسة الرّوح ضروريّة للوصول إلى ممارسة الإماتة. ويقول القدّيس بولس ذلك بوضوح: "إِذا أَمَتُّم بِالرُّوحِ أَعمالَ الجَسَدِ فسَتَحيَون".

لقد عبّر آباء الكنيسة عن هذا كلِّه بصورة "السَّكَر الرّصين" (nefelios methe). ما دفع الكثيرين منهم إلى تبنّي هذا الموضوع، الّذي طوّره فيلو الإسكندريّ، انطلاقًا من كلمات القدّيس بولس إلى أهل أفسس: "لا تَشرَبوا الخَمرَ لِتَسكَروا، فإِنَّها تَدعو إِلى الفُجور، بل دَعوا الرُّوحَ يَملأُكُم، واتلوا مَعًا مَزاميرَ وتَسابِيحَ وأَناشيدَ رُوحِيَّة. رَتِّلوا وسَبِّحوا لِلرَّبِّ في قُلوبِكم". وبالتّالي وبدءًا من أوريجانوس، كثيرة هي نصوص الآباء الّتي توضح هذا الموضوع، وتلعب على التّناقض بين السّكر المادّيّ والسّكر الرّوحيّ. والّذين، في يوم العنصرة، أخطأوا في اعتبار الرّسل سكارى كانوا على حقّ- يكتب القديس كيرلُّس الأورشليميّ-؛ لقد كانوا مخطئين فقط في أنّهم نسبوا هذا السّكّر إلى النّبيذ العاديّ، بينما كان الأمر يتعلّق بـ"النّبيذ الجديد"، المستخرج من "الكرمة الحقيقيّة" الّتي هي المسيح. فكيف يمكننا أن نستعيد هذا المثال للسّكّر الرّصين ونجسّده في الوضع التّاريخيّ والكنسيّ الحاليّ؟ إنَّ عطيّة المسيح لا تقتصر على عصر معيّن، ولكنّها تُقدَّم لكلّ عصر؛ ودور الرّوح القدس بالتّحديد هو أن يجعل فداء المسيح شاملاً ومتاحًا لكلّ شخص في كلّ نقطة من الزّمان والمكان.

ما هي "الأماكن" الّتي يعمل فيها الرّوح القدس اليوم بهذه الطّريقة الخمسينيّة؟ لنُصغِ إلى صوت القدّيس أمبروسيوس الّذي كان المشيد بامتياز، بين الآباء اللّاتين، بسكر الرّوح الرّصين. فبعد أن يذكر بـ"المكانين" التّقليديَّين اللّذين يمكننا أن نستقيَ منهما الرّوح القدس- الإفخارستيّا والكتاب المقدّس- يشير إلى احتمال ثالث ويقول: "هناك أيضًا سكر آخر يتمُّ من خلال مطر الرّوح القدس. وهذا ما حصل، في سفر أعمال الرّسل، عندما بدا الّذين كانوا يتكلّمون بألسنة مختلفة للمستمعين كما لو أنّهم ممتلئين بالخمر". لذلك، هناك أيضًا إمكانيّة بالنّسبة لنا لكي نستقي الرّوح القدس من خلال هذه الطّريقة الجديدة، معتمدين فقط على مبادرة الله الحرّة. وإحدى الطرق الّتي تتجلّى فيها طريقة تصرّف الرّوح هذه في أيّامنا خارج القنوات المؤسّساتيّة للنّعمة هي ما يُعرف بالمعموديّة في الرّوح القدس. تأتي عبارة "المعموديّة بالرّوح القدس" من يسوع نفسه. ففي إشارة إلى عيد العنصرة، قبل صعوده إلى السّماء، قال لرسله: "إنَّ يوحَنَّا قد عَمَّدَ بِالماء، وأَمَّا أَنتُم ففي الرُّوحِ القُدُسِ تُعَمَّدونَ بَعدَ أَيَّامٍ غَيرِ كثيرة". لا يتعلّق الأمر بطقس خفيٍّ أو سرِّي، وإنّما بتصرّفات شديدة البساطة والهدوء والفرح، مصحوبة بمواقف من التّواضع والتّوبة والاستعداد لأن يصير المرء طفلاً. إنّه تجديد وتأوين ليس فقط للمعموديّة والتّثبيت، وإنّما للحياة المسيحيّة بأسرها: فالمعموديّة بالرّوح ليست نقطة وصول، ولكنّها نقطة انطلاق نحو النّضج المسيحيّ والالتزام الكنسيّ.

هل من العدل أن نتوقّع أن يمرّ الجميع بهذه الخبرة؟ هل هذه هي الطّريقة الوحيدة الممكنة لكي نختبر نعمة عنصرة متجدّدة كما تمنّى المجمع الفاتيكانيّ الثّاني؟ إذا كنّا نعني بالمعموديّة في الرّوح طقسًا معيّنًا، في سياق معيّن، فعلينا أن نجيب بالنّفي؛ إنّها بالتّأكيد ليست الطّريقة الوحيدة لكي نعيش خبرة قويّة للرّوح القدس. هناك عدد لا يحصى من المسيحيّين الّذين عاشوا خبرة مماثلة، دون أن يعرفوا أيّ شيء عن المعموديّة في الرّوح القدس، ونالوا نعمة ومسحة جديدة من الرّوح القدس بعد رياضة روحيّة أو لقاء أو قراءة روحيّة، لأنّ السّرَّ هو في أن تقول مرّة واحدة "تعال أيّها الرّوح القدس"، ولكن عليك أن تقول ذلك من كلّ قلبك، وأن تترك الرّوح حرًّا ليأتي بالطّريقة الّتي يريدها، وليس كما نريده نحن أن يأتي، ربّما دون أن نغيِّر أيّ شيء في أسلوب حياتنا وصلاتنا. لنتذكّر وعد يسوع لنا في الإنجيل: "إِذا كُنتُم أَنتُمُ الأَشرارَ تَعرِفونَ أَن تُعطوا العَطايا الصَّالِحَةَ لأَبنائِكم، فما أَولى أَباكُمُ السَّماوِيَّ بِأَن يهَبَ الرُّوحَ القُدُسَ لِلَّذينَ يسأَلونَه".

لنسأل والدة الإله أن تنال لنا النّعمة الّتي نالتها من ابنها في قانا الجليل. بصلاتها، في تلك المناسبة، تحوّل الماء إلى خمرة. لنطلب إذًا بشفاعتها أن يتحوّل ماء فتورنا إلى خمرة حماسة متجدّدة. الخمرة الّتي أثارت في الرّسل في يوم العنصرة سكرة الرّوح وجعلهتم يتّقدون بالرّوح القدس."