دينيّة
01 شباط 2016, 09:17

لماذا يصعُب علينا الإيمان بمعجزات يسوع؟

إنّ أصعب سؤال يطرحه اليوم عالم العقل والمنطق والحداثة حول الإنجيل، هو: كيف أومن أنّ معجزات يسوع حدثت بالفعل؟ ولكن، هذابالضبط فحوى سؤال يسوع الأساسيّ والجوهريّ الّذي طرحه على الأعميين في إنجيل متّى، عندما استجدّا الشفاء بكافة السُبل… :"فقال لهما يسوع: أتؤمنان أنّني قادرٌ على ذلك؟" (متى ٩: ٢٨).

أتي سؤال يسوع هذا في وسط تتالي أربع معجزات شفاء مختلفة يرويها القدّيس متّى الإنجيليّ. أولاً، المرأة النازفة منذ اثنا عشر سنة، الّتي اقتربت من يسوع خلسةً بين الزحام، فحاولت أن تلمس هُدب رداءه مؤمنةً أنّ هذا كافٍ لشفائها من علّتها. وبعدها، يدخل يسوع بيت رئيس المجمع "يائيرس" وهو يعلَم أنّ ابنته قد توفّت، ويقول للجمع: "الصبية لم تمت، بل هي نائمة وحسب". وبعد استهزاء الجمع منه، يدخل يسوع البيت ويشفيها أو "يُعيدها للحياة"… ومن ثمّ، تأتي قصّة شفاء الأعميين. وفي النهاية يشفي يسوع الأخرس الممسوس بروحٍ الشرير…

ولا يُدهشنا أبدًا أن نسمع الجموع تقول: "إنّه لم يُرَ قطّ مثل ذلك في إسرائيل!".

ولكن، يعود هذا التساؤل إلى إذهاننا، كيف لي أن أومن بهذه القصص الغريبة العجيبة؟

رأى كثيرون يسوع نبيًّا حكيمًا، ومُعلّمًا رحيمًا، وقائدًا فذًّا… ولكنّهم عجزوا عن الإيمان به كإله، ولم يؤمنوا بقواه الإلهيّة القادرة على صنع المعجزات. لذا، وضعوا هذه القصص جانبًا أو تناسوها.

ومع هذا، يبقى التعريف بيسوع على أنّه طارد للأرواح الشريرة، وشافٍ من الأمراض، هو الأكثر مصداقيّةً بين باقي التوصيفات الّتي تخصّ شخص يسوع الناصريّ في مجال الدراسات الكتابيّة.

في الحقيقة، لهذه الروايات مصداقيةً الأكبر من غيرها، إذ تتكرّر وتتواتر في بقاعٍ مختلفة طوال مسيرة الإنجيل، أمام بعض التعاليم الّتي رواها الإنجيليّون. لكن لا يُمحّص المؤمنون أقوال يسوع، ولا تضعهم موضع التساؤل كما هو الحال أمام المعجزات… وعلاوةً على ذلك، فإنّ أكثر تعاليم يسوع تداولاً وانتشارًا، هي تلك الّتي رافقت الشفاءات وطرد الأرواح.

بالطبع، ثمّة لُبس في مجتمع اليهوديّة والجليل في القرن الأوّل ما بين المرض الجسديّ-النفسيّ، والمسّ الشيطانيّ. فعلى سبيل المثال، عندما شفى يسوع الصبي المُصاب بالصرع، أختلف الإنجيليّون في الرواية والوصف، فمنهم من يقول أنّه وقع في الصرع، وآخرون أنّه به روحٌ شرير. هذا لا يمسّ مصداقيّة الرواية الإنجيليّة، إذ لم يكن الإنجيليّون أخصّائيين في الأمراض النفسيّة - الجسديّة، كي يتبيّنوا الفرق بين حالةٍ وأُخرى.

ومن ناحيةٍ أُخرى، يصف الإنجيليّون الكثير من العلل والأسقام ذات منشأ غير نفسي، كالبرص مثلاً، الّذي يظهر كإلتهابات جلديّة، أو العمى، أو الأطراف اليابسة… إذ لا يمكن لأحد ربطها بمنشئ نفسي أبدًا. ومهما كان ردّ فعل الناس حول سبب المرض، سواء أكان شيطانيّ، أم غير ذلك… لا يمكننا غضّ النظر عن حقيقة أنّ يسوع كان يشفي من أمراضٍ عصيبةٍ ومزمنةٍ، وفي غالب الأحيان بطريقةٍ فوريّة.

بعبارةٍ أُخرى، ثمّة سبب لا محال لاندهاش الجمع باستمرار أمام ما يقوم به يسوع من شفاءات. حتّى تلامذته، فلم تحول مشاهدتهم للكثير من المعجزات دون أن يندهشوا في كلّ مرّةٍ أمام معجزةٍ ما. إذ عبّروا بعد شفاء يسوع للمُقعد في كفرناحوم: "لم نرَ أمرًا مشابهًا لِمَ عاينّاه!".

إنّ حقيقة شفاء يسوع لكثير من الناس، لم تكن موضوع جدلٍ في زمانه. ولم يشكّ أشرس خصوم يسوع في حقيقة شفاء يسوع للمرضى وقيامه بالمعجزات. إذ كان يدور الجدل حول "الوقت" الّذي قام به يسوع بمعجزته: السبت على سبيل المثال، وهذا الفعل كان كفيلاً ليحمل الكثير من القيادات اليهوديّة على الغضب من يسوع". أو السلطان الّذي لدى يسوع (عندما أتّهم يسوعَ أحد خصومه بأنّ سلطانه من بعلزبول). ومرّةً أُخرى، نجد أن الشفاء هو جزء أساسيّ من حياة يسوع التبشيريّة (العلنيّة).

ومع ذلك، يتحاشى الناس الحديث عن هذه المعجزات، أو حتّى تجاهلها… لماذا؟ الجواب: لأنّها تُزعجنا!!! لقد ذهب توماس جيفرسون بعيدًا، اذا اقتطع جميع الروايات الّتي تتناول معجزات يسوع من الإنجيل، ليضع إنجيله الخاصّ… إذ رغب بيسوع لا يُزعجه، يسوع يستطيع توماس أن يطوّعه… ونحن نعلم، إنّنا لو حذونا حذوة توماس جيفرسون، لا نعود نتكلّم عن يسوع، بل عن شخصٍ نبتدعه.

وقد تكون الاعتراضات على أنّ يسوع لم يكن قادرًا على صنع المعجزات، وليدة نفس الأفكار (المنطق) الّتي تقول أنّ الله ليس موجودًا. أو إنّ كان الله موجودًا، فإنّه ليس كُلّي القدرة. ونحن لا نحصر في قولنا هذا غير المسيحيّين… بل ثمّة الكثير من المسيحييّن المؤمنين، يقلّلون من شأن هذه المعجزات، ليرسموا شخصيّة أكثر مصداقيّة ليسوع المسيح، تتماشى وفكر جمهور عصرنا هذا. على سبيل المثال: يميل الوعّاظ في يومنا هذا إلى القول بإنّ معجزة تكثير الخمس أرغفة والسمكتين، عندما أطعم يسوع الجموع على شاطئ بُحيرة طبريّة، لم تكن مُعجزة بالمعنى الحرفيّ لهذه الكلمة. بل أنّ ما حدث في الواقع، هو أنّ الجموع في ذلك اليوم، شاركت القليل الّذي كان عندها، وهذا القليل كان كافيًا لإطعام الكلّ، لا بل فاض عمّا شاركَته. ويُنهي الواعظ كالتالي: "أليس ما حدث، كما لو أنّ يسوع قد كثّر الخُبز والسمكتين بحقّ؟" !!!

أمام هذه التفسيرات، أقول: "لا!". تعكس هذه التفسيرات "الخفيفة على المعدة" رغبة عالمنا بتفسير كلّ ما لا يمكن تفسيره، فتُقلل من شأن المعجزة في سياق رواية تقوم على هذه المعجزة. فإنّ ثُلث إنجيل مرقس، على سبيل المثال، يتناول معجزات يسوع. وأعتقد أنّ بعض هذه التفسيرات الّتي تبحث عن تمييع هذه الروايات، إنّما هي تعكس قلقًا أمام جبروت الله، وألوهيّة المسيح، وكل ما هو غير طبيعيّ… وأعمق من ذلك، تُخفي عدم إيمان بقدرة الله على القيام بأيّ شيء.

تنمّ هذه التفسيرات عن نوع من النرجسيّة، فهي تعكس رغبةً بشرح كلّ ما لا نفهم، بديهيّة تقول: "ما لا يمكن حصوله الآن، لا يمكن حصوله في الماضي. وإن لم يستطع مرؤ أن يشفي أعمىً اليوم، فهذا قد استحال أيضًا في الماضي، واستحال أيضًا على يسوع... " وتقترح هذه الفرضيّة أيضًا، أنّ الأحداث التاريخيّة يمكن (ويتوجّب) تفسيرها فقط من خلال مبدأ "السبب والنتيجة"، دون أي تطرّق لإمكانية ربط هذه الأحداث بقوّة إلهيّة.

وأخيرًا، تُفضي هذه الفرضيّة إلى محو إمكانيّة فرادة شخص المسيح في التاريخ. فهذه المقاربة تُحجّم يسوع ليكون كأي شخص دخل تاريخ الإنسانيّة، بينما الإيمان المسيحيّ يقوم على فرادة شخص المسيح، واختياره الإلهيّ.

وكما ذكرت مُسبقًا، ففي عمق هذا الرفض للمعجزة، يوجد عدم ارتياح لألوهيّة المسيح. لكنّني أعتقد، أنّ من يؤمن بأنّ الله خالق الكون من عدم، يسهل عليه الإيمان بأنّ هذا الخالق له أن يهب لابنه الوحيد المقدرة على الشفاء من الأمراض. فبمقارنةٍ ساذجة، نجد أنّ شفاء الرجل المخلّع، أسهل بأشواط من أن يخلق الله الكون في ستّة أيّام.

إنّ سؤال يسوع للأعميين: "هل تؤمنان أنّني أستطيع أن أشفيكما؟" يتضمّن سؤالاً يطرحه يسوع على كلّ واحدٍ منّا: "هل تؤمن أنّني ابن الله الوحيد؟ هل تؤمن أنّ الله أبي قدّ ولّاني سُلطانًا وقدرةً على شفاء الأمراض؟ أتؤمن أنّ لا مستحيل عند الرّب؟ هذه الأسئلة، هي الأسئلة الّتي يطرحها يسوع في كلّ لقاءٍ له في الكتاب المقدّس.

وعندما أجاب الأعميان: "نعم تستطيع يا ربّ"، فشُفيا… فالإنجيل يدعونا من خلالهما للقيام بالمثل!


المصدر : يسوعيّون