ما هو سرّ حركة قلب الإنسان؟
هذا هو سرّ حركة قلب الإنسان بحسب البابا لاون الرّابع عشر الّذي واصل تعليمه اليوم حول "يسوع المسيح رجاؤنا"، متوقّفًا البابا خلال المقابلة العامّة عند فصح يسوع المسيح لكونه "نقطة الوصول للقلب القلق".
وقال البابا للمتحشدين في ساحة القدّيس بطرس بحسب إعلام الكرسيّ الرّسوليّ: "تتميّز الحياة الإنسانيّة بحركة دائمة تدفعنا إلى العمل والنّشاط. واليوم يُطلَب في كلّ مكان تحقيق أحسن النّتائج وبسرعة، وفي أكثر المجالات اختلافًا. فكيف تُنير قيامة يسوع هذا الجانب من خبرتنا؟ عندما سنشارك في انتصاره على الموت، هل سنجد الرّاحة؟ يقول لنا الإيمان: نَعم، سنجد الرّاحة. لن نكون عديمي النّشاط، بل سندخل في راحة الله، وهي السّلام والفرح. وهل علينا فقط أن ننتظر، أم أنّ هذا يمكن أن يبدّلنا منذ الآن؟
نحن منغمسون في نشاطات كثيرة لا نجد فيها دائمًا ما يرضينا. وكثير من أعمالنا لها صلة بأمور عمليّة، وملموسة. علينا أن نتحمّل مسؤوليّة التزامات عديدة، وأن نحلّ المشاكل، ونواجه المتاعب. كذلك يسوع اهتمّ بحياة النّاس، ولم يُوفِّر التّعب على نفسه، بل بذل حياته حتّى النّهاية. ومع ذلك، نشعر أحيانًا كثيرة بأنّ كثرة العمل، بدلًا من أن تمنحنا الرّضى والحياة الوافرة، تصير دوّامة تربكنا، وتنزع منّا الطّمأنينة، وتمنعنا من أن نعيش بأفضل طريقة ما هو مهمّ حقًّا لحياتنا. فنشعر بالتّعب وعدم الرّضا: ويبدو الوقت كأنّه يتبدّد ويضيع في ألف شيء وشيء، ولا يحلّ معنى حياتنا الأخير. وأحيانًا، في نهاية أيّام مليئة بالنّشاط، نشعر بالفراغ. لماذا؟ لأنّنا لسنا آلات، بل لدينا ”قلب“، بل يمكننا القول: نحن قلب.
القلب هو رمز كلّ إنسانيّتنا، وهو خلاصة أفكارنا ومشاعرنا ورغباتنا، والمركز الخفيّ لشخصيّتنا. الإنجيليّ متّى يدعونا إلى أن نفكّر في أهمّيّة القلب، بقوله لنا هذه العبارة الجميلة جدًّا ليسوع: "حَيثُ يكونُ كَنزُكَ يكونُ قَلبُكَ" (متّى 6، 21).
لذلك، في القلب يُحفَظ الكنز الحقيقيّ، لا في خزائن الأرض، ولا في الاستثمارات الماليّة الكبرى الّتي لم تكن يومًا أكثر جنونًا ومحصورة في قِلَّةٍ من النّاس، بشكل غير عادل، وصارت تُعبَد بثمن هو الدّمّ الّذي يدفعه ملايين البشر وتدمير خليقة الله.
من المهمّ أن نتأمّل في هذه الجوانب، لأنّ كثرة الالتزامات الّتي نواجهها باستمرار توشك أن تقترب بنا أكثر فأكثر من التّشتت، وأحيانًا من اليأس، فتفقد الأشياء معناها، حتّى لدى أشخاص يبدون ناجحين. أمّا قراءة الحياة في ضوء فصح يسوع المسيح، والنّظر إليها مع يسوع القائم من بين الأموات، فيعني أن نجد المدخل إلى جوهر الإنسان، إلى قلبنا: القلب القلق. بهذه الصّفة ”القلق“، يجعلنا القدّيس أغسطينس نفهم اندفاع الإنسان نحو كماله. وتشير العبارة الكاملة إلى بداية ”الاعترافات“، حيث كتب أغسطينس: "خلقتنا لك يا ربّ، وقلبنا لن يستريح إلّا فيك" (الجزء الأوّل، 1، 1).
القلق هو علامة على أنّ قلبنا لا يتحرّك عشوائيًّا، أو بطريقة غير منظّمة، أو بدون هدف أو غاية، إنّما هو موجَّه نحو مصيره الأخير، نحو ”العودة إلى البيت“. وصول القلب إلى المرسى الحقيقيّ ليس في امتلاك خيرات هذا العالم، بل في الحصول على ما يحقّق امتلاءه، أيّ محبّة الله، أو بالأحرى: الله الّذي هو محبّة. وهذا الكنز لا يُقتنَى إلّا بمحبّة القريب الّذي نلتقي به على الطّريق: الإخوة والأخوات من لحم ودم، الّذين تخاطبهم حياتهم وتحثّنا، وتدعو قلبنا إلى الانفتاح والعطاء. القريب يَطلب منك أن تتمهَّل، وأن تنظر في عينيه، وأحيانًا أن تغيّر برنامجك، وربّما أيضًا أن تغيّر اتّجاهك.
أيّها الأعزّاء، هذا هو سرّ حركة قلب الإنسان: العودة إلى ينبوع كيانه، والتّمتّع بالفرح الّذي لا يزول ولا يخيّب. فلا أحد يستطيع أن يعيش بدون معنى يتجاوز ما هو عابر وزائل. قلب الإنسان لا يمكنه أن يعيش بدون رجاء، وبدون معرفة أنّه خُلِق للامتلاء والكمال لا لما هو ناقص.
يسوع المسيح، بتجسّده وآلامه وموته وقيامته من بين الأموات، منحنا أساسًا راسخًا لهذا الرّجاء. والقلب القَلِق لن يُخيَّب إن دخل في ديناميّة المحبّة الّتي خُلق من أجلها. الوصول إلى المرسى مُؤكّد، لأنّ الحياة انتصرت، وفي المسيح ستظلّ تنتصر في كلّ موت يُلِمُّ بنا في كلّ يوم. هذا هو الرّجاء المسيحيّ: لنبارك الرّبّ يسوع ونشكره دائمًا لأنّه وهبنا إيّاه."
