هكذا انطلقت مسبحة الورديّة المقدّسة!
هذه الصّلاة الّتي يُنسب أصلها إلى القدّيس عبد الأحد، تستمدّ جذورها إلى ما قبله بمئة عام، أيّ إلى نهاية القرن الحادي عشر، إذ كانت صلاة التّقوى المريميّة تقوم على تلاوة السّلام الملائكيّ عدّة مرّات مع سجود متكرّر إكرامًا لأفراح العذراء وأحزانها؛ كما كان رهبان يمارسون العمل اليدويّ يجدون صعوبة في حفظ المزامير الـ150، فكانوا يستعيضون عنها بتلاوة صلاة "الأبانا" 150 مرّة استُبدلت لاحقًا بالسّلام الملائكيّ على حبل معقود 150 عقدة، وباتت تُعرف بـ"مزامير مريم" إلى أن ظهرت العذراء للقدّيس عبد الأحد سنة 1200 قائلة له: "صلِّ مزاميري وعلّمها لشعبك، فهذه الصّلاة لن تسقط أبدًا"، فتحوّلت من صلاة عاديّة وفرضًا تقويًّا إلى صلاة مقدّسة بطلب إلهيّ، فكانت المسبحة الورديّة.
يومها، ظهرت عليه بعد ثلاثة أيّام من الصّوم والتّقشّف والصّلاة قدّمها على نيّة محاربة البدع وعلاج الأوبئة النّاتجة عنها والّتي اجتاحت إسبانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها، فتراءت له سيّدة جميلة جدًّا ومعها ثلاث سيّدات ترافق كلّ منهنّ 50 فتاة بثياب مختلفة: الأولى تلبس وفتياتها ثيابًا بيضاء دلالة على أسرار الفرح، والثّانية حمراء إشارة إلى أسرار الحزن، والثّالثة ذهبيّة رمزًا لأسرار المجد.
عمل عبد الأحد على نشر هذه الصّلاة بحماسة وغيرة. وفي سنة 1216، أسّس رهبنة الدّومنيكان "الأخوة الوعّاظ" الّذين انضمّ إليهم الأب "دو لا روش" وراح الكاهنان يطوّران معًا صلاة الورديّة وأقسامها، فاتّخذت شكلها النّهائيّ بعد عام وسُمّيت رسميًّا بالمسبحة الورديّة الّتي تشبه باقة ورد توضع عند قدميّ العذراء، أمّا بيوتها فتفصلها حبّة كبيرة مخصّصة للصّلاة الّتي علّمنا إيّاها يسوع. هذا وأضافا الصّليب لأنّ أيّ عمل لا يبدأ قبل رسم إشارة الصّليب، وبجانبه تتفرد حبّة كبيرة لقانون الإيمان ثمّ ثلاث حبّات للتّأمّل بصفات العذراء الثّلاثة، فهي: إبنة الآب، أمّ الابن وعروس الرّوح القدس. هذه المسبحة تكلّلها أيقونة مثلّثة الزّوايا كانت تحملها العذراء يوم ظهورها على القدّيس عبد الأحد.
أدخلت الكنيسة بصمتها فيما بعد إلى طريقة تلاوة المسبحة، فنظرًا لتعذّر إتمام الصّلاة بأسرارها الثّلاثة دفعة واحدة كلّ يوم قلّصتها إلى الثّلث أيّ خمسة أيّام فقط. وفي عام 2002، أضاف البابا يوحنّا بولس الثّاني "أسرار النّور" "لتبرز بشكل كامل العمق المسيحيّ للورديّة"، لأنّها "تحوي على أسرار رسالة المسيح العلنيّة من عماده وحتّى آلامه".
أمّا عن تخصيص 7 ت1 / أكتوبر عيدًا للورديّة، فيروي التّاريخ عن النّصر الّذي حقّقه المسيحيّون أمام محاولة الأسطول التّركيّ احتلال أوروبا عام 1571 عبر إيطاليا. ففي ذلك الزّمان سكن الرّعب قلب المؤمنين الّذين لجأوا إلى الفاتيكان في 7 ت1 / أكتوبر من ذاك العام طلبًا للنّجدة، فأطلّ البابا بيوس الخامس من الشّرفة مردّدًا على مسامع المحتشدين: "لا تخافوا، قوّوا إيمانكم وليأخذ كلّ واحد مسبحته وصلّوا الورديّة...". ثم دخل إلى غرفته وركع أمام المصلوب وصلّى المسبحة الورديّة وطلبة العذراء، ثم خرج من جديد وهتف بالجماهير: "أبشرّكم بانتهاء الحرب وانتصار المسيحيّة"، وهكذا كان: ففي تلك اللّحظة، انقلبت الرّيح مع مراكب المسيحيّين وانعكست على الأعداء الّذين راحوا يتراجعون منهزمين، فعاين المسيحيّون النّصر! وعلى أثر هذه الأعجوبة، حدّد 7 ت1/ أكتوبر عيدًا للورديّة، ليخصّص البابا إينوشنسيوس الحادي عشر شهر ت1 بكامله "لمعونة النّصارى".
واليوم، نرفع إلى العذراء، في شهر الورديّة المقدّسة، العالم وأزماته لتردّ بمسبحتها الحروب والكوارث عن أرضنا، ونصرخ إليها قائلين: يا سلطانة الورديّة المقدّسة، تضرّعي لأجلنا!