هكذا منعت صلاة الورديّة الزّحف العثمانيّ نحو إيطاليا!
وبالعودة إلى ذاك الزّمن، وتحديدًا إلى العام 1453 حين احتلّ العثمانيّون القسطنطينيّة قلب العالم المسيحيّ في الشّرق، وسمّوها إسطنبول، وحوّلوا كنيستها البيزنطيّة آيا صوفيا إلى جامع، لم تسلم بلدان عديدة على البحر المتوسّط من الزّحف العثمانيّ، بل فرض الأتراك سيطرتهم على البلقان وهنغاريا ورومانيا، وهدّدوا فيينّا، وطمحوا إلى الوصول إلى روما. في تلك الحقبة، كان السّلطان سليمان معروف بكرهه للمسيحيّين، وكان في داخله رغبة عميقة في تنفيذ وعد جدّه بالوصول إلى روما فشنّ حملته، إلّا أنّ الموت خطفه قبل أن يحقّق غايته، فخلفه سليم الثّاني وأكمل مسيرة السّخط والتّهديد، واحتلّ جزيرة قبرص، حتّى بدأ يقترب شيئًا فشيئًا باتّجاه روما وسيطر على البندقيّة في العام 1571.
في السّنة نفسها، عرف البابا الدّومينيكانيّ القدّيس بيوس الخامس بمخطّط الأتراك، فطلب النّجدة من دول إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وألمانيا والنّمسا لوقف الزّخف العثمانيّ باتّجاه روما، فكلّف ملك إسبانيا فيليب الثّاني أحد رجاله ويُدعى دون خوان بتشكيل أسطول بحريّ. هذا الاختيار كان بعناية إلهيّة، فقائد الأسطول سلّم أمر المعركة إلى السّماء، إذ أمر رجاله قبل أن ينطلقوا بحملتهم أن يصوموا 3 أيّام، وجمع عددًا من الكهنة الفرنسيسكان والدّومينيكان واليسوعيّين ليرافقوهم ويعرّفوا الجنود، ووزّع على الأسطول كاملاً مسبحة الورديّة المقدّسة.
هذا الإيمان الكبير، تزامن مع حملة صلاة أطلقها البابا بيوس الخامس، إذ حشد المسيحيّين في روما حول الورديّة المقدّسة، وترأّس عشيّة المعركة الصّلاة في دير سانتا ماريا سوبرا مينيرفا للرّهبان الدّومينيكان في روما، وطلب من سلطانة السّماء النّصرة للجيش المسيحيّ.
وفي اليوم التّالي، حان وقت الحسم! إنّه السّابع من ت1/ أكتوبر 1571. وفيما كان الأسطول التّركيّ يزحف نحو إيطاليا بسفنه الـ300 وجنوده الّذين فاق عددهم الـ100 ألف، كان الأسطول المسيحيّ يتوجّه نحو هدفه، مزوّدًا بـ285 سفينة و70 ألف جنديًّا، منطلقين بقوّة الورديّة المقدّسة. في ليبانتو كان الاصطدام، ونشأت معركة دامت ساعات، هبّت خلالها عاصفة قويّة، وانقلبت الرّيح مع مراكب المسيحيّين وانعكست على الأعداء الّذين راحوا يتراجعون منهزمين، فعاين بذلك المسيحيّون النّصر.
هذا الانتصار التّاريخيّ شهده بابا روما بأمّ العين بفعل عجائبيّ، إذ سمحت العذراء للبابا بيوس الخامس أن يرى لحظة الانتصار في رؤيا أثناء تلاوته الصّلاة في غرفته أمام المصلوب، فخرج بعدها إلى المؤمنين هاتفًا: "أبشرّكم بانتهاء الحرب وانتصار المسيحيّة".
هذا الانتصار تمّ بشفاعة الورديّة المقدّسة، وباعتراف العالم الكاثوليكيّ مجتمعًا، فأعلن البابا بيوس الخامس 7 ت/ أكتوبر عيدًا سنويًّا لسيّدة الانتصار، ومنحه البابا غريغوار الثّالث عشر بعد عام اسم عيد الورديّة المقدّسة.
واليوم، في ظلّ كلّ ما يتخبّط به العالم، لنجعل المسبحة الورديّة سلاحنا الدّائم فلا نحوّلها إلى مجرّد زينة نرتديها متباهين بمسيحيّتنا، بل لتكن لنا درعًا حاميًا وواقيًا في كلّ أيّام حياتنا وظروفها.