لبنان
20 كانون الأول 2017, 09:31

يوحنّا العاشر في رسالة الميلاد: الدّعوة اليوم إلى كل نفسٍ ألا تطفئ حضور الله فيها وأن تغذّيه بالأعمال الصّالحة

لمناسبة عيد الميلاد المجيد، وجّه بطريرك أنطاكية وسائر المشرق البطريرك يوحنّا العاشر رسالة معايدة إلى المسيحيّين عامّة ورعاة الكنيسة الأنطاكيّة المقدّسة وأبنائها وبناتها في أرجاء الكرسيّ الرّسوليّ خاصّة، جاء فيها:

 


 

"إنّ يسوع لما شاهد من هو على صورته ومثاله (الإنسان) متهوّرًا بسبب المعصية طأطأ السّماوات وانحدر وحلّ في مستودع البتول"

بهذه الصّورة الرائعة لخّص القدّيس يوحنا الدّمشقي ابن كنيستنا الأنطاكيّة حدث الميلاد المجيد ورمزه. الرّب الخالق والبارئ الكل، لمّا أبصر آدم أوّل الجبلة يبتعد عن الله بالمعصية ويفقد من جرّاء معصيته محاسن الفردوس ونعمه، وافى إليه بابنه الوحيد. وافى إلى كلّ إنسان. وافى إلى كل طينته الّتي عجنها هو على صورته ومثاله، ليعيد إليها الجمال الأول.

لقد نقب الرّب بميلاده كوّة السّماوات وسماوات السّماوات مريدًا خلاص الإنسان. ونقب أيضًا ستار الزّمن ودخل زمننا الأرضيّ وقدسه. ونقب وينقب إلى الآن القلب والذّهن البشريّين بخفر وسلامٍ ورويّة. وافانا يسوع في مغارة ليضيء مغاور نفوسنا بفتيل محبّته. وافانا والدّمع ملء مآقينا فكحّل العيون بحلاوة حضوره. أتانا مستدفئًا في مغارة ومتكئًا في مزودٍ ليقول لنا إنّ سكون الله أقوى من كل شيء. وهو إلى يومنا، ينقب مغاور النّفوس وبواطنها ليضع فيها شيئاً من نوره.

والدّعوة اليوم إلى كلّ نفسٍ ألا تطفئ حضور الله فيها وأن تغذّيه بالأعمال الصّالحة. دعوتنا اليوم أن نتلمّس حضور هذا الطّفل الإلهيّ في وسطنا وفي قلبنا وفي كل مفصل من مفاصل حياتنا. دعوتنا أن نراه وسْط كل محننا وكل ضيقاتنا وأفراحنا وأتراحنا. دعوتنا أن نتحسّس حضوره في رونق حياتنا كما في ضيقاتها وفي يسر حالنا وفي عسره. يسوع من أجلنا طأطأ السّماوات. ومن أجلنا انحدر من علياء مجده إلى دركات المغارة، ومن قعر المغارة هبّ بنا، بعلياء صليبه ومجد قيامته، إلى مجدٍ أبديٍّ.

نتأمّله اليوم ونطرق باب قلبه صلاةً ونسجد أمامه ولسان حالنا: أعطنا يا ربّ نور سلامك. وامسح بنور مراحمك قلوب البشر، وأسبغ سلامك على الأرض. من نورك أيها الطّفل الإلهيّ، نستمد قوةً لنا كمسيحيّين أنطاكيّين. وبإنجيلك المغروس في قلوبنا نغرس أقدامنا في أرضنا وبيوتنا. ومن عزيمة أجدادنا الّذين لبسوك مسيحيّين معتمدين على اسمك، نلبس نحن أيضًا درع الإيمان ونتدرّع بصليبك وسط كل ضيقاتنا ونثبت ونبقى في هذا الشّرق العظيم. ونثق ونعلم أنّك كما أزحت حجر قبرك، أزحت وتزيح ثقل الحجر عن قلوبنا. بنورك نعاين النّور وبقوّتك نثق رعاةً ورعيةً أنّنا، رغم كل الظّروف، قلبٌ واحدٌ وفكرٌ واحدٌ نحمل بعضُنا أثقال بعضٍ ليتمّ فينا إنجيلك. ونمدّ إلى كلّ إخوتنا ومن سائر الأديان والأطياف القلب واليد المفتوحة لما فيه الخير العام والطّمأنينة والسّلام لأوطاننا وإنساننا.
لقد آن لليل هذا الشّرق أن ينجلي ولإنسانه أن يعيش بسلام في الأرض الّتي ولد فيها.

لقد آن للحروب أن تسكت هنا على هذا التّراب الذي عليه ولد المسيح ومنه انطلقت الدّيانات السّماوية. ورسالة مشرقنا هي رسالة حرّيّة وسلامٍ وانفتاحٍ على العالم كله.

وليس من ماضيه ولا من حاضره التّكفير والعنف والتّهجير والإرهاب. نصلّي أن يصل ظلام الحروب إلى بصيص نور المغارة. وأن يرسَخَ في أذهان الجميع أن منطقتنا ليست سوقًا لتصريف السّلاح وليس من قدر إنسانها أن يموت على شواطئ البحور. 
صلاتنا اليوم من أجل السّلام في سوريا ومن أجل صون استقرار لبنان وسلامة فلسطين وخير العراق الجريح وكل بقعة من هذا الشّرق بكل بلدانه وشعوبه. صلاتنا من أجل القدس الجريحة بمقدّساتها، لكي تبقى دومًا مدينة الصّلاة. صلاتنا من أجل السّلام في العالم أجمع. ودعاؤنا أن يكلّل الرّب العام الجديد بالخير والبركات. صلاتنا من أجل المخطوفين وعلى رأسهم مطرانا حلب بولس يازجي ويوحنّا إبراهيم. صلاتنا من أجل كل مهجّر ومخطوفٍ وملتاعٍ. صلاتنا في ليل الميلاد المجيد، من أجل كل الّذين سبقونا على رجاء القيامة والحياة الأبديّة من أجل أن يضمّهم الطّفل الصّغير إلى قلبه الإلهيّ ويدفئهم وأخصّاءَهُم برحمته الإلهية.

وإذ نذكر الشّرق في هذه الأيّام العصيبة، لا يغيب عنّا، ولو لحظة، الحضور الأنطاكيّ المسيحّي الفعّال في كلّ بلاد الدّنيا. نصلي إلى طفل المغارة ونسأل مراحمه للعالم أجمع ولأبنائنا في الكرسيّ الأنطاكيّ المقدّس في سائر أبرشياته في الوطن وبلاد الانتشار.
ومن قلب كنيسة أنطاكيّة إلى قلوب النّاس كلّها، أطيب سلامٍ بالمسيح المولود في بيت لحم، وخير شهادةٍ أن المسيحيّة وُلدت في قلب هذا الشّرق وتآخت مع الغير وأن أنطاكيّة المسيحيّة تمدّ يدها إلى الجميع وتعانق كلّ أبنائها وتفتخر وتعتزّ بهم أينما حلّوا في كلّ أصقاع الأرض، وهي عبرهم وعبر حضورهم الفعّال تحمل إنجيل المسيح وبشراه إلى الدنيا.