الفاتيكان
24 حزيران 2019, 11:57

البابا فرنسيس: أنت لست بمفردك، لديك الإفخارستيّا، خبز الطّريق، خبز يسوع

لمناسبة عيد جسد المسيح ودمه، ترأّس البابا فرنسيس أمس الأحد القدّاس الإلهيّ في رعيّة "Santa Maria Consolatrice" في كازال بيرتونيه. وألقى البابا عظة جاء فيها بحسب "فاتيكان نيوز":

 

"تساعدنا كلمة الله اليوم على اكتشاف فعلين بسيطين وأساسيَّين للحياة اليوميّة :القول والعطاء.

القول: يقول ملكيصادق في القراءة الأولى: "على أَبْرامَ بَرَكَةُ اللهِ العَلِيّ، وتبارَكَ اللهُ العَلِيّ". إن قول ملكيصادق هو تبريك- يبارك إبراهيم، الذي فيه ستتبارك جميع عائلات الأرض. فكلّ شيء يبدأ من البركة: فمن كلمات الخير تولد قصّة الخير. يحدث الشّيء نفسه في الإنجيل وبالتّالي يبارك يسوع الأرغفة قبل تكثيرها: "فأَخَذَ الأَرغِفَةَ الخَمسَةَ والسَّمَكَتَيْن، ورَفَعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماء، ثُمَّ بارَكَها وكَسَرَها وجَعلَ يُناوِلُها تَلاميذَه لِيُقَدِّموها لِلْجَمع". إنّ البركة تحوِّل الأرغفة الخمسة إلى طعام لجمع كبير.

لماذا البركة هي أمر جيد؟ لأنّها تحوّل الكلمة إلى عطيّة. فعندما تبارك، أنت لا تفعل شيئًا من أجل نفسك، إنّما من أجل الآخرين. أن تبارك لا يعني أن تقول كلمات جميلة، ولا أن تستعمل كلمات تليق بالمناسبة؛ أن تبارك يعني أن تقول خيرًا، وأن تقوله بمحبّة. هكذا فعل ملكيصادق، قائلًا خيرًا بإبراهيم، بطريقة عفويّة، بدون أن يطلب منه أبراهيم شيئا أو أن يقدم له أيّ شيء. هكذا فعل يسوع، مظهرًا معنى البركة من خلال توزيع الخبز مجّانًا. كم من مرة نحن أيضًا حصلنا على البركة، في الكنيسة أو في منازلنا، وكم من مرة سمعنا كلمات أسعدتنا، أو رُسِمت على جباهنا علامة الصّليب... لقد أصبحنا مباركين في يوم المعموديّة، وننال البركة في نهاية كلّ قدّاس. إنّ الإفخارستيّا هي مدرسة البركة. يمنحنا الله خيرًا، نحن أبناءه المحبوبين، وهكذا يشجعنا على المضيّ قُدمًا. ونحن نبارك الله في جماعاتنا، بإعادة اكتشاف طعم التّسبيح الذي يحرر القلب ويشفيه. نذهب إلى القدّاس بيقين أنّ الرّبّ سيباركنا، ونخرج منه لنبارك، ونصير بدورنا قنوات خير في العالم.

من المهمّ بالنّسبة لنا أيضًا أن نتذكّر، نحن الرّعاة، أن نبارك شعب الله. أيّها الكهنة الأعزّاء، لا تخافوا من أن تباركوا، فالرّبّ يرغب في قول الخير لشعبه، وهو سعيد أن يجعلنا نشعر بمحبّته لنا. فالمبارَكون فقط بإمكانهم أن يباركوا الآخرين بمسحة المحبّة عينها. من المحزن أن نرى اليوم مدى سهولة التّفوّه بكلمات اللّعن، والتّحقير، والشّتم. فإذ نغرق في زحام الحياة، نثور ونتهجّم على كلّ شيء وعلى الجميع. وفي كثير من الأحيان يبدو للأسف أنّ من يصرخ أكثر هو الأقوى، ومن يغضب أكثر هو على حقّ ويحصل على التّأييد. لا نسمحنَّ بأن يعدينا الكبرياء وأن تسيطر علينا المرارة، نحن الذين نأكل الخبز المقدّس الذي يحمل معه كلّ حلاوة. إنّ شعب الله يحب التّسبيح، ولا يعيش من التّذمّر؛ لقد صُنع من أجل البركة، لا من أجل التّذمّر. ولذلك أمام القربان المقدّس، وأمام يسوع الذي صار خبزًا، هذا الخبز المتواضع الذي يشمل الكنيسة بأسرها، علينا أن نتعلّم أن نبارك ما لدينا، وأن نسبِّح الله، علينا أن نبارك ماضينا لا أن نلعنه، وأن نعطي كلمات صالحة للآخرين.

الفعل الثّاني، هو العطاء-  إنَّ "العطاء" يتبع "القول"، كما هو الحال بالنّسبة لإبراهيم، الذي باركه ملكيصادق، فـ"أَعْطاه أَبْرامُ العُشْرَ مِن كُلِّ شَيء". وكذلك يسوع الذي، بعد أن بارك، أعطى الخبز ليوزَّع، وكشف هكذا عن المعنى الأجمل: ليس الخبز مجرد منتجًا استهلاكيًّا، بل هو وسيلة للمقاسمة. في الواقع، وبشكل مدهش، لا تحدث في معجزة تكثير الأرغفة عن التّكثير. على العكس لأنَّ الأفعال المستخدمة هي "التّكثير، والعطاء، والتّوزيع". باختصار، في هذه المعجزة لا يتمّ التّركيز على فعل التّكثير، إنّما على فعل المقاسمة. إنه أمر مهم: فيسوع لا يقوم بأعمال سحريّة، فهو لم يحوِّل الأرغفة الخمسة إلى خمسة آلاف، ليقول بعدها: "الآن قوموا بتوزيعها". لا! يسوع يصلّي أوّلًا، ويبارك تلك الأرغفة الخمسة، ويبدأ في كسرها، واثقًا في الآب. وتلك الأرغفة الخمسة لم تعد تنتهي أبدًا. هذا ليس سحرًا، بل هو ثقة في الله وفي عنايته.

إنّ العالم يسعى على الدّوام ليزيد الأرباح، ويزيد المبيعات وحركة الأموال ... نعم، ولكن ما هو الهدف من ذلك؟ هل هو العطاء أم الأخذ؟ المقاسمة أم التّكديس؟ إنّ "اقتصاد" الإنجيل يتزايد من خلال المقاسمة، ويغذّي من خلال التّوزيع، إنّه اقتصاد لا يشبع جشع القليلين، بل يمنح الحياة للعالم. وبالتّالي فالطّلب الذي يوجّهه يسوع لتلاميذه هو قاطع: "أَعطوهُم أَنتُم ما يَأكُلون". لنتخيل الخواطر التي جالت في عقول التّلاميذ: "ليس لدينا ما نطعم به أنفسنا وعلينا أن نفكر في الآخرين؟ لماذا يجب علينا إطعامهم، إن كانوا قد جاءوا للاستماع لمعلمنا؟ إن كانوا قد جاءوا بلا طعام ليعودوا إلى بيوتهم، أو ليعطونا المال كي نشتريه لهم". إنّها ليست خواطر خاطئة، لكنها ليست خواطر يسوع، الذي لا يسمع لهذه الأفكار: أَعطوهُم أَنتُم ما يَأكُلون. إنّ ما لدينا يثمر إن أعطيناه - هذا ما يريد يسوع أن يقول لنا -؛ ولا يهمّ إذا كان قليلًا أو كثيرًا. فالرّبّ يفعل أمورًا عظيمة من خلال صغرنا، كما فعل بالأرغفة الخمسة. إنه لا يقوم بالعجائب بواسطة أفعال مبهرة، وإنّما من خلال أمور متواضعة. إنّ قدرة الله هي التّواضع، قدرة مصنوعة فقط من الحبّ. والحبّ يفعل أشياء عظيمة بواسطة الأمور الصّغيرة. وهذا ما تعلّمنا الإفخارستيّا إيّاه: الله موجود في قطعة خبز. إنّ الإفخارستيّا التي ننالها تنقل لنا فكر الله، وتحملنا لكي نعطي الآخرين التّرياق ضدّ الـ "أنا آسف، هذا الأمر لا يعنيني"، وضد الـ "لا وقت لديّ، ولا يمكنني، وليس من شأني".

وإختتم البابا القول: "في مدينتنا الجائعة للحبّ والعناية، والتي تتألّم بسبب التّدهور والإهمال، وأمام العديد من المسنّين الوحيدين، والعائلات التي تعيش في صعوبات، والشّباب الذين يكافحون من أجل كسب الخبز وتغذية أحلامهم، يقول الرّبّ لك: "أَعطهم أَنت ما يَأكُلون". بإمكانك أن تجاوبه: "لدي القليل، أنا غير قادر". هذا ليس صحيحًا، فقليلك في نظر يسوع هو كثير، إن لم تحتفظ به لنفسك، وإن خاطرت بتقديمه للآخرين. أنت لست بمفردك: لديك الإفخارستيّا، خبز الطّريق، خبز يسوع. هذه اللّيلة أيضًا سنتغذّى بجسده المُقدَّم لنا. فإن استقبلناه في قلوبنا، سيفجّر هذا الخبز فينا قوّة المحبّة: سنشعر بأنّنا مباركون ومحبوبون، وسنرغب بدورنا أن نبارك ونحبّ، انطلاقًا من هنا، من مدينتنا، ومن الدّروب التي سنسير عليها اللّيلة. سيمشي الرّبّ في شوارعنا ليقول لنا خيرًا وليشجعنا، ولكي يطلب منّا أيضًا أن نكون بركة وعطيّة للآخرين."