الفاتيكان
03 نيسان 2023, 06:30

البابا فرنسيس في الشّعانين: المرفوضون والمهمّشون هم أيقونات حيّة للمسيح

تيلي لوميار/ نورسات
مع مغادرته المستشفى صباح السّبت إثر تأكيد الأطبّاء تحسّن أوضاعه الصّحّيّة، ترأّس البابا فرنسيس صباح الأحد قدّاس أحد الشّعانين وآلام الرّبّ في ساحة القدّيس بطرس في الفاتيكان.

وللمناسبة ألقى الأب الأقدس عظة قال فيها بحسب "فاتيكان نيوز": ""إلهي إلهي لماذا تركتني؟". إنّها الصّلاة الّتي جعلتنا اللّيتورجيا نكرّرها اليوم في المزمور، وهي الصّلاة الوحيدة الّتي أعلنها يسوع على الصّليب في الإنجيل الّذي سمعناه. لذلك فهي الكلمات الّتي تحملنا إلى قلب آلام المسيح، إلى ذروة الآلام الّتي احتملها لكي يخلِّصنا.

لقد كانت آلام يسوع متعدّدة وفي كلّ مرّة نصغي فيها إلى رواية الآلام تدخل إلى داخلنا. لقد كانت آلام جسديّة لنفكّر في الصّفعات والضّرب، وفي الجلد وإكليل الشّوك، وفي عذاب الصّليب. كانت هناك آلام للنّفس: خيانة يهوذا، إنكار بطرس، الأحكام الدّينيّة والمدنيّة، سخرية الحرّاس، الإهانات تحت الصّليب، رفض الكثيرين، فشل كلّ شيء، وهجر التّلاميذ. ومع ذلك، في كلّ هذا الألم، بقي ليسوع يقين واحد: قرب الآب. ولكن يحدث الآن ما لا يمكن تصوّره؛ وقبل أن يموت يصرخ: "إلهي إلهي لماذا تركتني؟".

إنّه أشدُّ الآلام عذابًا، ألم الرّوح: ففي أكثر السّاعات مأساويّة، يختبر يسوع هجر الله. لم يسبق له أن دعا الآب باسم الله العامّ. ولكن لكي ينقل لنا قوّة ذلك الواقع يذكر الإنجيل العبارة أيضًا باللّغة الآراميّة؛ إنّها العبارة الوحيدة، من بين تلك الّتي قالها يسوع على الصّليب، والّتي تصل إلينا باللغة الأصليّة. لذلك فإنّ الحدث حقيقيّ والتّنازل هو إلى أقصى الدّرجات: وصل الأمر بالرّبّ أن يعاني محبّة بنا ما يصعب حتّى علينا أن نفهمه. رأى السّماء مغلقة، واختبر حدود الحياة المريرة، وغرق الوجود، وانهيار كلّ يقين: وصرخ "أعظم لماذا في التّاريخ".

"إلهي إلهي لماذا تركتني؟". إنّ الفعل "ترك" في الكتاب المقدّس قويّ جدًّا، ويظهر في لحظات الألم الشّديد: في حبّ فشل وتعرّض للرّفض والخيانة؛ في الأطفال المرفوضين والمُجهضين؛ في حالات الطّلاق والتّرمّل والتَّيتُّم؛ في الزّيجات المنهكة، في أشكال التّهميش الّتي تحرم الرّوابط الاجتماعيّة، في قمع الظّلم وفي عزلة المرض: بإختصار، في تمزّقات العلاقات البليغة. لقد حمل المسيح هذا كلّه على الصّليب، وأخذ على عاتقه خطيئة العالم. وفي ذروة ذلك، اختبر، الابن الوحيد والحبيب، أكثر المواقف غرابة بالنّسبة له: بُعد الله.

ولكن لماذا وصل به الأمر إلى هذا الحدّ؟ الجواب واحد فقط: من أجلنا. لقد تضامن معنا إلى أقصى حدّ، لكي يكون معنا حتّى النّهاية. لقد اختبر الهجر لكي لا يتركنا رهائن لليأس ولكي يبقى إلى جانبنا للأبد. لقد فعل ذلك من أجلي ومن أجلك، لكي، وعندما نرى أنفسنا في موقف لم يعد بإمكاننا أن نخرج منه، تائهين في طريق ضيِّق مسدود، غارقين في هاوية الهجر، تمتصُّنا دوّامة "التّساؤلات"، يكون لدينا رجاء. إنّها ليست النّهاية، لأنّ يسوع كان هناك وهو الآن معك: لقد اختبر بُعد الهجر لكي يقبل في محبّته كلّ مسافاتنا. لكي يتمكّن كلُّ فرد منّا من أن يقول: في سقطاتي، في يأسي، عندما أشعر بالخيانة والتّهميش والتّرك، أنت هناك يا يسوع. عندما أشعر بعدم الكفاءة والضّياع، عندما أفقد القدرة على التّحمُّل، يكون حاضرًا معي؛ في تساؤلاتي الّتي لا أجوبة عليها هناك.

هكذا يخلّصنا الرّبّ من داخل تساؤلاتنا. من هناك يظهر الرّجاء الّذي لا يُخيّب. على الصّليب، في الواقع، بينما يختبر التّرك الأقصى لا يسمح لليأس بأن يتملّكه، بل يصلّي ويسلِّم نفسه. صرخ "تساؤلاته" بكلمات مزمور وأسلم نفسه بين يدي الآب، على الرّغم من أنّه كان يشعر بأنّه بعيد عنه. وثِق في التّرك. وليس فقط: في التّرك استمرّ في محبّة تلاميذه الّذين تركوه وغفر لصالبيه. هنا تغوص هاوية شرورنا في حبّ أعظم، فيتحوّل هكذا كلّ انفصال نعيشه إلى شركة.

أيّها الإخوة والأخوات، إنَّ محبّة كهذه، كلّها لنا، حتّى النّهاية، يمكنها أن تحوّل قلوبنا الحجريّة إلى قلوب من لحم، قادرة على الشّفقة والحنان والرّحمة. إنّ المسيح المتروك يدفعنا لكي نبحث عنه ونحبّه في المتروكين. لأن فيهم لا يوجد معوزون وحسب، وإنّما يسوع المتروك، الّذي خلّصنا بالنّزول إلى أعماق حالتنا البشريّة. لهذا يريدنا أن نعتني بالإخوة والأخوات الأكثر شبهًا به، في أقصى درجات الألم والوحدة. كثيرون هم "المسحاء المتروكين". هناك شعوب بأسرها مُستَغَلَّة ومتروكة لنفسها. هناك فقراء يعيشون على تقاطعات دروبنا ونحن لا نتحلّى بالشّجاعة لكي ننظر في أعينهم؛ مهاجرون لم يعودوا وجوهًا وإنّما مجرّد أعداد؛ سجناء مرفوضون، أشخاص مصنّفون كمشاكل. ولكن هناك أيضًا العديد من المسحاء المتروكين، غير المرئيّين والمخفيّين الّذين يُهمَّشون بأقصى درجات اللّطف والاحترام: أطفال لم يولدوا بعد، ومسنّون تركوا بمفردهم، ومرضى لا يزورهم أحد، وذوو احتياجات خاصّة يتمُّ تجاهلهم، وشباب يشعرون بفراغ كبير في داخلهم دون أن يصغي أحد حقًّا إلى صرخة ألمهم.

إنَّ يسوع المتروك يطلب منّا أن نتحلّى بعيون وقلب للمتروكين. بالنّسبة لنا، نحن تلاميذ المتروك، لا يمكن لأحد أن يُهمَّش، ولا يمكن لأحد أن يُتركَ وحده؛ لأنَّ الأشخاص المرفوضين والمُهمَّشين هم أيقونات حيّة للمسيح، ويذكّروننا بحبّه المجنون، وتركه الّذي يخلّصنا من كلّ وحدة ويأس. لنطلب اليوم هذه النّعمة: أن نعرف كيف نحبّ يسوع المتروك، ونعرف كيف نحبّ يسوع في كلّ متروك. لنطلب نعمة أن نعرف أن نرى ونتعرَّف على الرّبّ الّذي لا يزال يصرخ فيهم. لا نسمحنَّ لصوته أن يضيع في صمت اللّامبالاة الّذي يصمّ الآذان. إنَّ الله لم يتركنا وحدنا، لنعتنِ إذًا بالّذين يُتركون وحدهم. عندها فقط، سنتبنّى رغبات ومشاعر الشّخص الّذي "تجرَّد من ذاته" من أجلنا".

في ختام القدّاس الإلهيّ، تلا الأب الأقدس صلاة التّبشير الملائكيّ، وقبل الصّلاة ألقى كلمة قال فيها: "أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، أحيّيكم جميعًا، يا سكّان روما ويا أيّها الحجّاج، ولاسيّما الّذين قدموا من بعيد. أشكركم على مشاركتكم وعلى صلواتكم الّتي كثّفتموها في الأيّام الأخيرة. شكرًا!

أوجِّه بركة خاصّة إلى قافلة السّلام الّتي غادرت إيطاليا خلال هذه الأيّام متوجّهة إلى أوكرانيا، والّتي نظّمتها جمعيّات مختلفة: البابا يوحنّا الثّالث والعشرون، FOCSIV، Pro Civitate Christiana، Pax Christi وغيرها. والّتي بالإضافة إلى الضّروريّات الأساسيّة، تحمل قرب الشّعب الإيطاليّ إلى الشّعب الأوكرانيّ المعذّب، وستُقدِّم اليوم أغصان الزّيتون، رمزًا لسلام المسيح. نتّحد مع هذه المبادرة بالصّلاة الّتي ستكون مُكثَّفة خلال أيّام أسبوع الآلام.

أيّها الإخوة والأخوات، بهذا الاحتفال دخلنا أسبوع الآلام. أدعوكم إلى عيشه كما يعلّمنا تقليد شعب الله المقدّس والأمين، أيّ بمرافقة الرّبّ يسوع بالإيمان والمحبّة. ولنتعلّم من أمّنا، العذراء مريم: هي الّتي تبعت ابنها بقرب القلب، وكانت نفسًا واحدة معه، وعلى الرّغم من أنّها لم تكن تفهم، استسلمت معه بشكل كامل لمشيئة الله الآب. لتساعدنا العذراء مريم لكي نبقى بالقرب من يسوع الحاضر في الأشخاص المتألّمين والمُهمّشين والمتروكين. وأتمنّى لكم جميعًا مسيرة استعداد جيّدة نحو الفصح."