البابا: في عطش المسيح على الصّليب يمكننا أن نرى عطشنا نحن جميعًا
وفي هذا السّياق، قال البابا بحسب "فاتيكان نيوز": "في قلب رواية آلام المسيح، في اللّحظة الأكثر إشراقًا وفي الوقت عينه الأكثر ظلمة في حياة يسوع، يسلّمنا إنجيل يوحنّا كلمتين تختزلان سرًّا عظيمًا: "أنا عطشان"، وبعدها مباشرة: "تمّ كلّ شيء". كلمات أخيرة، لكنّها محمَّلة بحياة كاملة، تكشف معنى حياة ابن الله بأسرها. على الصّليب، لا يظهر يسوع كبطل منتصر، وإنّما كمتسوّل للحبّ. لا يعلن، ولا يدين، ولا يدافع عن نفسه. بل يطلب بتواضع ما لا يستطيع أن يمنحه لنفسه بأيّ شكل من الأشكال.
إنَّ عطش المسيح المصلوب ليس مجرّد حاجة جسديّة لجسمٍ مُنهَك. إنّه أيضًا، وبشكل خاصّ، تعبير عن رغبة عميقة: رغبة في الحبّ، في العلاقة، وفي الشّركة. إنّه صرخة صامتة لإله إذ أراد أن يشترك في جميع جوانب بشريّتنا، سمح لهذا العطش بأن يخترقه. إله لا يخجل من أن يتسوّل رشفة ماء، لأنّه في هذا الفعل يقول لنا إنَّ الحبّ، لكي يكون حقيقيًّا، عليه أن يتعلّم أيضًا أن يطلب، لا أن يعطي فقط.
قال يسوع: "أنا عطشان"، وبذلك أظهر إنسانيّته وإنسانيّتنا أيضًا. إذ لا أحد منّا يستطيع أن يكتفي بنفسه. ولا أحد يستطيع أن يخلُص وحده. إنَّ الحياة "تتمُّ" ليس عندما نكون أقوياء، بل عندما نتعلّم أن ننال. وفي تلك اللّحظة، بعد أن نال من أيدي غريبة إسفنجة مبلّلة بالخلّ، أعلن يسوع: "تمّ كلّ شيء". لقد أصبح الحبّ معوزًا، ولذلك فقد تمَّم عمله.
هذا هو التّناقض المسيحيّ: إنَّ الله لا يخلّص من خلال فعل كلّ شيء بنفسه، وإنّما بالقبول والسّماح لعمله بأن يتحقّق. كما إنّه لا يخلِّص بالانتصار على الشّرّ بالقوّة، وإنّما بقبول ضعف الحبّ إلى أقصى حدّ. على الصّليب، يعلّمنا يسوع أنّ الإنسان لا يُحقّق ذاته بالسّلطة، بل بالانفتاح الواثق تجاه الآخر، حتّى ولو كان عدوَّنا. فالخلاص لا يكمن في الاستقلاليّة، بل في الاعتراف بتواضع بالحاجة وبالتّعبير عنها بحرّيّة.
إنَّ اكتمال إنسانيّتنا في مُخطَّط الله ليس فعل قوّة، بل هو فعل ثقة. ويسوع لا يُخلِّص بمفاجأة، بل بطلب شيء لا يستطيع أن يمنحه لنفسه. وهنا يُفتح باب على الرّجاء الحقيقيّ: إذا كان ابن الله نفسه قد اختار ألّا يكتفي بذاته، فإنّ عطشنا نحن أيضًا- للحبّ، والمعنى والعدالة- ليس علامة فشل، بل علامة حقيقة.
هذه الحقيقة، الّتي تبدو بسيطة جدًّا في الظّاهر، هي صعبة القبول. نحن نعيش في زمن يكرِّم الاكتفاء الذّاتيّ والكفاءة والإنجاز. ومع ذلك، يظهر لنا الإنجيل أنّ مقياس إنسانيّتنا لا يُقاس بما نحقّقه، وإنّما بقدرتنا على السّماح للآخرين بأن يُحبُّوننا، وإذا لزم الأمر بأن يساعدوننا أيضًا.
إنَّ يسوع يخلّصنا ويُظهر لنا أنّ طلب الحاجة ليس عيبًا، بل تحريرًا. إنّه الدّرب للخروج من خفاء الخطيئة، لكي ندخل مجدّدًا في فُسحة الشّركة. منذ البداية، ولّدت الخطيئة شعورًا بالخجل. لكن المغفرة، الحقيقيّة، تولد عندما نتمكّن من أن نواجه عوَزنا بدون أن نخاف من الرّفض.
إنَّ عطش يسوع على الصّليب هو عطشنا نحن أيضًا. إنّه صرخة الإنسانيّة الجريحة الّتي تبحث عن الماء الحيّ. وهذا العطش لا يبعدنا عن الله، بل يوحّدنا به. وإذا تجرّأنا على الاعتراف به، يمكننا أن نكتشف أنّ ضعفنا أيضًا هو جسر نحو السّماء. ففي الطّلب- لا في الامتلاك- تُفتح لنا درب الحرّيّة لأنّنا نتوقّف عن الادّعاء بأنّنا نكفي أنفسنا.
في الأخوّة، وفي الحياة البسيطة، وفي فنّ السّؤال بلا خجل والعطاء بلا حساب، يكمن فرح لا يعرفه العالم. فرح يعيدنا إلى حقيقة وجودنا الأصليّة: نحن مخلوقات خُلقت لكي نمنح الحبّ ونناله.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، في عطش المسيح يمكننا أن نرى عطشنا نحن جميعًا. ونتعلّم أنّه لا شيء أكثر إنسانيّة، ولا شيء أكثر ألوهة، من القدرة على أن نقول: أنا بحاجة لكذا. لا نخشَينَّ من السّؤال، لاسيّما حين يبدو لنا أنّنا لا نستحقّه. ولا نخجلَنَّ من مدّ اليد. ففي هذا الفعل المتواضع يختبئ الخلاص."
في ختام المقابلة العامّة حيّا الأب الأقدس الحجّاج والمؤمنين المحتشدين في ساحة القدّيس بطرس ووجّه نداء قال فيه: "من السّودان، وبشكل خاصّ من دارفور، تَرِد أنباء مأساويّة. ففي مدينة الفاشر، علق عدد كبير من المدنيّين داخل المدينة، ضحايا المجاعة وأعمال العنف. وفي تراسن تسبّبت انهيارات أرضيّة مدمّرة في سقوط عدد هائل من الضّحايا، مخلّفة وراءها الألم واليأس. كذلك يُهدّد انتشار وباء الكوليرا مئات الآلاف من الأشخاص المنهكين أصلًا. أنا قريب من الشّعب السّودانيّ، ولاسيّما من العائلات والأطفال والنّازحين. وأرفع صلاتي من أجل جميع الضّحايا. وأوجّه نداءً حارًّا إلى المسؤولين والمجتمع الدّوليّ لكي يتمّ تأمين ممرّات إنسانيّة، والعمل على استجابة منسّقة لوقف هذه الكارثة الإنسانيّة. لقد آن الأوان لبدء حوار جادّ وصادق وإدماجيّ بين الأطراف، من أجل إنهاء الصّراع وإعادة الرّجاء والكرامة والسّلام إلى شعب السّودان."