الرّاعي: أيّ ضمير يَسمح بربط إنقاذ لبنان بصراعات لا علاقةَ لنا بها لا من قريبٍ ولا من بعيد؟
"1. بدأت بشرى الملاك لرعاة بيت لحم بكلمة "لا تخافوا". هذه الدّعوة لعدم الخوف طالما ردّدها الرّبّ يسوع لتلاميذه، ومن قبله الملاك لزكريّا ولمريم عذراء النّاصرة وليوسف. إنّها الدّعوة إلى الثّقة بالله وبالذّات. في الميلاد تأسّست هذه الثّقة على صخرة يسوع –عمّانوئيل- الله معنا (متّى 1: 23). كانت الدّعوة للفرح بميلاد المخلّص، وهو فرح يشمل العالم كلّه. لكنّه ممزوج بالتّقشف والفقر بسبب الميلاد في مذود حقير، وبالقلق في الهرب إلى مصر من وجه هيرودس المزمع على قتل الطّفل.
هكذا الحياة تتراوح بين فرح الإيمان وشكّ الواقع. شعبنا يحافظ على إيمانه، وسط حالات الشّكّ التي تمتحن صبره ورجاءه. فلنجدّد إيماننا بالإله السّاكن بيننا مردّدين: "ملجأي هو وخلاصي، صخرتي فلا أتزعزع" (مز 62: 6).
2. يسعدني وإخواني السّادة المطارنة والآباء أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، وأن أقدّم لكم أخلص التّهاني والتّمنّيات بالميلاد المجيد، أنتم الحاضرون وكلّ الّذين يشاركوننا عبر وسائل الإعلام ووسائل الاتّصال الاجتماعيّ في لبنان والنّطاق البطريركيّ وبلدان الانتشار. معكم ومعهم نتبادل البشرى السّارة بميلاد مخلّص العالم وفادي الإنسان. وقد تسلّمنا فيها هديّتي السّماء: السّلام لنبنيه في مجتمعاتنا، والرّجاء لنصمد به. بهاتين العطيّتين ينتفي الخوف والقنوط، ولو اكتنفتنا حالات الشّكّ. يوحنّا المعمدان نفسه إمتُحن بالشّكّ، وهو في السّجن. فأرسل بعثةً إلى يسوع تسأله: "أأنت هو الآتي، أم ننتظر آخر؟" فأجرى يسوع بعض الشّفاءات، وقال لهم :"إذهبوا وأخبروا يوحنّا بما تسمعون وتنظرون: ألعميان يبصرون، والعرج يمشون، والصّمّ يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يُبشّرون، وطوبى لمن لا يشكّ فيّ" (متى 11: 2-6). هذا هو العهد المسيحانيّ الجديد.
3. هذا المزيج من الشّكّ والفرح رآه النّبيّ أشعيا، عندما نادى الّذين شاهدهم أمامه بوحيٍ نبويّ عن المسيح الآتي قائلًا: "قوّوا الأيدي المسترخية، وشدّدوا الرّكب الواهنة. قولوا لفزعي القلوب: تقوّوا، لا تخافوا، هوذا إلهكم يأتي فيخلّصكم. حينئذٍ تتفتّح عيون العميان، وآذان الصّمّ تنفتح. وحينئذٍ يقفز الأعرج كالأيّل، ويهتف لسان الأبكم" (أشعيا 35: 3-6).
4. ليست كلمة الله من الماضي، بل هي كلمة حيّة وفاعلة في التّاريخ لدى الّذين يتقبّلونها. وهي كالمطر الّذي لا يرجع إلى السّماء من دون جدوى، بل يؤتي الأرض ثمارها، كما ينبئ النّبيّ أشعيا نفسه (راجع أشعيا 55: 10-11). والكلمة صخرة نبني عليها حياتنا وتاريخنا. بها نواجه التّناقضات والمعاكسات التي تأتينا من الطّبقة الحاكمة.
فلقد توقّعنا أن تُعزِّزَ مكافحةُ الفساد وحدتَنا الوطنيّة، فتَفاجَأْنا بها تَـهُـزُّ هذه الوحدةَ وتُعيدُ البلادَ إلى مراحلَ سابقة طويناها.
توقّعنا أن يؤدّيَ التّحقيقُ القضائيُّ المستقلُّ في تفجيرِ المرفأِ إلى مزيدٍ من اللُحْمةِ الوطنيّةِ، فتَفاجَأْنا بتحوّله صراعًا بين القضاءِ والأجهزة الأمنية والمؤسّسات الدّستوريّة.
توقّعْنا أن تتهافتَ السّلطة السياسيّة إلى تَلقُّفِ توصياتِ المؤتمراتِ الدّوليّةِ ومساعداتِ الدّولِ المانحةِ، وتبدأ بمشاريعَ الإصلاحِ للَجِمِ الانهيار، فتَفاجَأْنا بتعطيلِ خُططِ الإصلاحِ وإجهاضِ المبادراتِ الدّوليّةِ والمؤتمراتِ التي انعقَدت من أجل نهوض لبنان.
توقّعْنا أنْ يُسرعَ المسؤولون في تأليف حكومةٍ تكون بمستوى التّحدّياتِ من أجل إحياء الدّولةِ والمؤسّساتِ واتّخاذِ القرارات، فتَفاجَأْنا بوضع شروطٍ وشروطٍ مضادّةٍ ومعاييرَ مستَحْدَثةٍ، وبربط تأليفِ حكومةِ لبنان بصراعاتِ المِنطقة والعالم، فبتنا من دون سلطة إجرائيّة دستوريّة، وازداد الانهيار. إنَّ اعتبارَ الصّلاحيّاتِ والمعايير وتوزيع الحقائب مهمٌ، لكنَّ اعتبارَ الشّعبِ أهمُّ من كلِّ شيء، بل أهمّ من الأشخاص.
5. إذا كانت أسبابُ عدم تشكيلِ الحكومةِ داخليّةً فالمصيبةُ عظيمةٌ لأنَها تَكِشفُ عدمَ المسؤوليّة، وإذا كانت أسبابُها خارجيّةً فالمصيبةُ أعظم لأنّها تَفضَحُ الولاءَ لغيرِ لبنان. وفي الحالتين يشعر الشّعب أنّ التّغيير بات أمرًا ملحًّا من أجل وقف مسيرة الانهيار الوطنيّ. أيُّ ضمير يَسمح بربطِ إنقاذ لبنان بصراعاتٍ لا علاقةَ لنا بها لا من قريبٍ ولا من بعيد؟
لَكَمْ تمنينا على رئيس فخامة الجمهوريّةِ ودولة الرّئيسِ المكلَّف أن يُشكِّلا فريقًا واحدًا يعلو على جميع الأطرافِ ويَّتحررا، ولو موقّتًا، من جميعِ الضّغوطِ ويتعاونا في تشكيلِ حكومة اختصاصيّين غيرِ سياسيّين. فيكسبان ثقةَ الشّعبِ والعالم ويَنهضان بلبنان، ويصبحان مضربَ مثلٍ في تجديدِ الشّراكةِ الوطنية، لكنَّ تمنيّاتنا اصطدَمت بابتداعِ البعضِ شروطًا لا محلَّ لها في هذه المرحلةِ، ولا مبرِّرَ لها في حكومةِ اختصاصيّين.
فلا بدّ من مصارحة الشّعب التي هي ميزة المسؤولين في الأزمات المصيريّة. وأيُّ أزمةٍ أعظمُ من هذه الأزمة؟
6. إنّ لوحة الميلاد تكشف لنا أنّ الله يقود مجرى التّاريخ،بحيث يحقّق عبر واقعاته تصميمه الخلاصيّ. فبمناسبة الإحصاء العالميّ، الّذي أمر به أغسطوس قيصر، انتقل يوسف من النّاصرة بلدته إلى بيت لحم مدينة داود، وهو من سلالته، ليكتتب هناك مع مريم خطّيبته وهي حامل. فولدت يسوع هناك، وتمّت نبوءة ميخا التي ترقى إلى سبعماية سنة قبل الميلاد: "وأنتِ يا بيت لحم، إنّك أصغر عشائر يهوذا، ولكن منك يخرج لي من يكون متسلّطًا على شعبي، وأصوله منذ القديم، منذ أيّام الأزل" (ميخا 5: 1). إنّ الّذي أمر بالإحصاء هو أغسطوس قيصر المتسلّط على العالم المعروف، أمّا المولود الرّضيع المكتتب فهو سيّد السّماء والأرض.
ولأنّ الله هو سيّد تاريخ البشر، ويقود مجراه تحقيقًا لتصميمه الخلاصيّ. بات لزامًا علينا كمؤمنين أن نقرأ علامات الأزمنة، وأن نستلهم أنوار الرّوح القدس، لكي تنكشف إرادة الله على كلّ واحد منا، ويتوضّح، على ضوء الإيمان والصّلاة، دور كلّ واحد وواحدة منّا في هذا التّصميم الإلهيّ العام، مثل زكريّا وأليصابات، ويوحنّا المعمدان، ومريم ويوسف أبويّ يسوع إبن الله الأزليّ.
7. فلنخشع معًا أمام المغارة، ونتأمّل مثل يوسف ومريم في سرّ يسوع الإله المتجسّد، ولنخبر عنه مثل الرعاة، فرحين ومهلّلين وقائلين: وُلد المسيح، هللويا"!