دينيّة
24 تموز 2017, 07:12

القدّيس شربل من اللّاشيء إلى كلّ شيء... الولادة في اللّاشيء

ماذا يعني لنا ذكرى راهب بسيط من لبنان هو الأب الحبيس شربل مخلوف؟

 

نحن نعرف أنّه عند ولادة أيّ عظيم من العظماء تولد كواكب في السّماء، وتضاء نجوم في الفلك. تحدث تغيّرات كونيّة، وتنسحب نجوم مذنّبة، وتصير تحرّكات جغرافيّة واجتماعيّة، وتولد تحوّلات غريبة. على تاريخ ولادة هؤلاء العظماء تؤسّس الشّعوب بداية أيّامها وأزمنتها، وتبدأ مهدويّة الأيّام والأزمنة والأحداث، فهناك الزّمن الفرعونيّ، وهناك الزّمن الإسكندريّ، وهناك الزّمن القيصريّ، وهناك الزّمن المسيحيّ، وهناك الزّمن الإسلاميّ.

فماذا حدث في يوم ولادة شربل؟

في يوم ولادة شربل، لم يحدث شيء، لم يؤسّس لشيء! وكذلك يوم موته.

الموت في اللّاشيء

يوم مات شربل لم يحدث شيء، كانت ليلة الميلاد: يومها مات أيضاً البطريرك يوحنّا حاج، رئيس الدّير، ذهب إلى المشاركة بجنازة البطريرك، لم يكن في الدّير يوم مات شربل، كان في اللّاشيء، في البرد والثّلج والرّياح، وعزلة المحبسة وصقيعها ووحدتها، لم يكن قربه إلّا راهبان فقط لا شيء، بل صمت وسكون وثلج ورياح، حتّى أنه لم يكن ممكن أن ينقل جثمان من المحبسة إلى الدّير والثّلج أمتار، والعاصفة تقتلع أشجار السّنديان. لا شيء على الجسد، إلّا العباءة والمشلح، وصفير الرّياح والزّمهرير. لا كلام، لا ضجيج، بل صمت، صمت... صمت ووقع أقدام تغرق في الثّلج حتّى الرّكب، والجسد يتهاوى على المحمل المشكوف حتّى الوقوع والسّقوط. ولد في اللّاشيء، وعاش في اللّاشيء، ومات في اللّاشيء.

الحياة في اللّاشيء

كما كان المسيح، اهتمام بالله فقط. الاهتمام واحد، مرتا مرتا! في ولادته! وحياته! وموته! هكذا كان شربل. عاش في الخفاء والامّحاء ولم يعرف أحد من هو!

أخلى ذاته، هو الّذي في صورة الله حاسباً كلّ مجد العالم كـ "لا شيء". ولد في مذود، لا أحد معه، عاش مع أفقر النّاس، الصّيادين، والخطأة. ويوم مات، مات وحيداً، يصرخ: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ متروك، مزدرى مخذول، من النّاس! وحده قائد المئة صرخ بعد موته قائلاً: "بالحقيقة كان هذا ابن الله". وانشقّ حجاب الهيكل، وتفتّحت القبور، وقام الأموات. هكذا سيكون بعد موت شربل.

ستفتح الكتب والأعين والألسن، وتقرأ الأحداث على غير ما كانت ظاهرة. فستقرأ في كلّ جمال، وفي عمق معانيها. بعد الموت، سيكشف سرّ الولادة والحياة والموت، ونعرف معنى حقيقة الحياة.

شربل كان في اللّاشيء

في ولادته وحياته ومماته، كان في العادي المغمور، الرّتيب، التّافه، في اللّاشيء كان. في اللّامنفعة. لا مظاهر، لا مجد، لا مراكز، لا وجاهة، لا أعمال باهرة، لا سياسة، لا اقتصاد، لا كبرياء، لا ادّعاء، لا فنّ، لا مسرح، لا مال، لا علاقات اجتماعيّة، لا قيمة اقتصاديّة، بل تواضع وامّحاء، وزوال، وفناء في الله! في يسوع تلاشى إخلاء الذّات، وكما يقول القدّيس بولس: "أخلى ذاته حاسباً كلّ شيء كالزّبل ليربح المسيح". لا خدمة رعائيّة، لا وعظ، لا رياضات روحيّة، لا سهرات إنجيليّة، لا اهتمامات دنيويّة، بل صمت وصلاة وانكفاء إلى الله، وغرق بالله، وإصغاء له في عزلة المحبسة، وعيش سرّ الموت قبل الموت، منسيّاً، مخفيّاً غير معروف، غير مشهور، ولا راكضاً وراء المظاهر والمجد والكبرياء و"شوفة الحال" وأوّل المراكز في المجتمعات، وجلب الانتباه، وعيش الغرور واللّهو بالحياة، ولذائذ الدّنيا وشهواتها، كما يقول يوحنّا: "شهوة المال، وشهوة السّلطة، وشهوة الجسد، وشهوة المجد الباطل". فهم أن كلّ شيء باطل هو! لا صباغة شعر لإخفاء مظاهر تقدّم العمر وعلامات الكبر والشّيخوخة. لا وضع "جل" على الشّعر لزيادة بريقه ولمعانه. بل اسكيمٌ يلفّ الرّأس والشّعر والرّقبة والجبين والعينين، حاجباً الوجه المُنوّر ببهاء النّعمة والمشعّ بحضور السّماء، لا أكمام منشأة، ولا أزرار أكمام مذهّبة، برّاقة، ولا طوق أبيض، في اليد الخشنة الحاملة المسبحة، والباقي عليها تراب الحقل وأثر الحجارة. لا عطر على الجسد إلّا عطر العرق الطّيّب، وعطر الوزّال والبلاّن، وفوح الزعتر والزيزفون والسّنديان والطّيّون والشومار والجربان.

عباءة سوداء بسيطة من الصّوف، تلفّ جسداً هزيلاً عليه مسح شعر أو زنّار حديد يغرز باللّحم حتّى العظام، ولا ينزع عن الجسد لا في اللّيل ولا في النّهار، لا ساعة النّيام ولا ساعة القيام. نظيف هو، ولكنّه غير متأنّق، مُهَفْهَف، تفوح منه رائحة البخور واللّياقة.

وفي حنايا القلّاية، أو الغرفة، سوط لجلد الذّات المنهكة بالإماتة والتّقشّف والصّوم والسّهر والصّلاة. والمائدة قائمة على شظف العيش، على طبق قشّ فوقه الخضرة المسلوقة والخبز اليابس. سهران مع السّاهر ربّ السّاهرين، في صمت. يقظ مع اليقظين الملائكة في الدّير والصّومعة، وليس في أيّ مكان آخر. لأنه أدرك من البداية أنّ ما عدا الله، ما عدا يسوع لا شيء يهمّ في الحياة. يسوع هو المطلق الوحيد الأزليّ، الأمين الثّابت الصّادق، هو كلّ شيء، وسواه كلّ شيء باطل. وأدرك منذ البداية أنّ من خسر نفسه لأجل المسيح فقد ربح كلّ شيء، لأنّ المسيح هو كلّ شيء، وبه يعطي العالم كلّ شيء.

المسيح هو الثّابت الدّائم، هو النّبع الثّابت الحقيقيّ غير العابر، وغير الفاني. هو الحضور الكلّيّ الأوّليّ، المعنى الحقيقيّ العميق لوجودنا ولحياتنا، وسواه "لهو" وهباء وزوال وفناء وغبار ودخان...