زحلة ودّعت المطران حدّاد والبطريرك العبسي يصفه بـ"قانون إيمان"
في عظته، رثا البطريرك العبسيّ المطران حدّاد فقال: "أيّها الأحبّاء، اجتمعنا اليوم، في هذا المكان المقدّس، لنرافق بالصّلاة أخانا المنتقل المثلّث الرّحمات المطران أندره حدّاد، راعي أبرشيّة الفرزل وزحلة والبقاع، إلى الملكوت السّماويّ، إلى حضن الله الآب، لاسترجاع الصّورة الإلهيّة الّتي خُلق عليها، لاسترجاع الجمال الإلهيّ، وللحصول على المجد الإلهيّ الّذي وعدنا الله به كما نقول في صلاتنا "أعدني إلى ما هو على مثالك فيبعث فيّ الجمال القديم". اجتمعنا لنعيد هذه الوديعة الثّمينة، المطران أندره، إلى اليدين اللّتين صنعتاها وأعطتنا إيّاها كوكبًا أضاء في سماء كنيستنا. جئنا نودّع أخًا وأبًا والحزن في قلوبنا، إلّا أنّنا في الوقت عينه نشعر بالسّكينة لإيماننا الرّاهن بأنّ الله تعالى قد كافأه بإكليل البرّ الّذي وعد به أصفياءه وكلّ من آمن به.
تقيم كنيستنا اليوم تذكارًا لأجداد يسوع بالجسد، أولئك النّاس الّذين عاشوا على الإيمان بمجيء المخلّص يسوع، في خضمّ من المضايق والشّدائد والعذابات والاضطهادات، كما وصفهم القدّيس بولس، والّذين كانوا بسيرتهم الإيمانيّة شهودًا لله يدلّون بها على حقيقة وجوده وتدبيره الخلاصيّ. ونحن الآن نقيم صلاة من أجل واحد من أولئك الأبطال في الإيمان، قضى حياته مناضلاً وشاهدًا للسّيّد المسيح، حياةً يعلم الكلّ كم وقعت عليها صعوبات وتجارب وأحداث وظروف قاسية، كشف عنها في كلمته يوم دخل إلى الفرزل، قال: "نحن، إنّما بقينا واسمرّينا، رغم كلّ الأعاصير الّتي ضربتنا، لأنّنا تمسّكنا بإيماننا الوطيد... وسيبقى الإيمان الحيّ هو عندنا خشبة الخلاص لشعوبنا ولكلّ الشّعوب المؤمنة على السّواء". أجل لقد كان الإيمان البوصلة الموجّهة لحياة فقيدنا الغالي والقاعدة لمسلكه، ويحقّ أن يقال فيه ما تقوله الكنيسة في رؤساء كهنتها إنّه كان "قانون إيمان" و"دليل الإيمان القويم."
محمولاً بهذا الإيمان جعل المطران أندره أوّل ما جعل نصب عينيه أن يكون على مثال السّيّد المسيح الرّاعي الصّالح الّذي يبذل نفسه عن رعيّته ويقودها إلى الميناء الهادئ. عاش بين أبنائه، تردّد بينهم رسولاً متنقّلاً يعظ ويعلّم، عرفهم بأسمائهم، مشى أمامهم، شاطرهم حياتهم ساهرًا عليهم في السّرّاء والضّرّاء، يشجّعهم ويشدّد عزائمهم ويقودهم إلى يسوع المخلًص . كم سعى وراء منسيّ مهمّش؟ كم فكّ أسيرًا واسترجع مخطوفًا . أحيا المؤسّسات واستنهض النّشاطات، وكان للشّبيبة حصّتها الكبيرة من عنايته، كان لها "مكان خاصّ في قلبه وفي حياته" ، ذلك لإيمانه بأنّ الشّباب هم "أمل المستقبل وعماد الوطن"، لهم الدّور الكبير في تحقيق المصير الأمثل" كما وصفهم، حتّى لقّب بمطران الشّباب. كان راعيًا صالحًا جدّد وبنى الكنائس والقاعات وشاد المساكن. كان راعيًا سخيًّا لرعاياه لكي يكون الكلّ في أمان واطمئنان. وقد ظهرت رعايته الصّالحة بنوع خاصّ تجاه أولاد الكهنة الّذين كانوا محطّ رعايته، كلّ واحد بمفرده، يطمئنّ عنه بالهاتف، يستدعيه إلى بيته ينادمه ويلاطفه ويقف على حاجاته. فكانت المطرانيّة بيتًا وملاذاً لكلّ كاهن. وقد لخّص هو نفسه دوره كراعٍ صالح بقوله: "أن نكون ضمير هذا المجتمع، نوقظ فيه القيم الغافية، ونهزّ الضّمائر الغافلة، ونعلن تعاليم الحقّ والخلاص، ونرفع الصّوت ضدّ الظّلم والجشع والإذلال والاستغلال".
إيمان المطران أندره ما كان ليجعله منطويًا على ذاته ولا متعصّبًا، لا بل جعل منه رجلاً جامعًا منفتحًا يمدّ يده للجميع، للكنائس الشّقيقة وللطّوائف الأخرى ولجهات ومراجع أخرى كثيرة، رغبة منه في التّماسك والتّعاون على مبدأ أنّ البلد يتّسع للجميع، وعلى مبدأ أنّنا كلّنا مدعوّون إلى أن نبنيه ملتقين على المبادئ الأساسيّة الثّابتة ولاسيّما مبدأ المواطنة. من هنا تلك العلاقات الطّيّبة الّتي ربطته بجهات متنوّعة، بل مختلفة، في بعض الأوقات، من أجل أهل مدينة زحلة والبقاع، في زمن من أصعب وأحلك الأزمان الّتي مرّت بها زحلة ولبنان. كان يستقطب الجميع إليه، وما كانت تقع مشكلة، حتّى الأعقد، إلّا وتنتهي بخير وسلام، بفضل تلك العلاقات الّتي أجاد نسجها بدماثة أخلاقه وطيب معشره وحكمته وإرادته الصّالحة. من أقواله في هذا المضمار، على سبيل المثال "قد عملنا نحن أساقفة زحلة والبقاع الأربعة، وأنا صاحب الكرسيّ الأقدم والأوّل بينهم، بالتّعاون مع نوّابها ووزرائها وفاعليّاتها وقادة الرّأي فيها. وحقّقنا على الأرض صيغة العيش المشترك بين كل أهل البقاع وزحلة، وجعلنا شعبنا ينعم بالسّلام" وأيضًا "دعوتي في هذه الأبرشيّة أن أكون للجميع أخًا وصديقًا وأبًا وقائدًا، محاولاً أن أمسح الدّمعة من العيون، وأعيد البسمة إلى الشّفاه، وأزرع الأمل في النفوس، وأغرس المحبّة في القلوب، وأنشر الفرح بالحياة في كلّ مكان".
طُبع عهد المطران أندره، في جزء كبير منه، بالأحداث الأليمة الّتي مرّ بها لبنان عمومًا وزحلة خصوصًا، والّتي استطاع أن يتصدّى لها بقوّة شيمه وإيمانه والتفاف أبنائه من حوله وبما تحلّى به من صفات القائد والمدبّر. وقد يكون أفظع تلك الأحداث الانفجار الّذي دمّر المطرانيّة وهو في داخلها. ظنّوا أنّهم إذا ما ضربوا الرّاعي تتبدّد الخراف، كما يقول الكتاب المقدس، إلّا أنّ الرّاعي نهض، بقوّة الّذي كان واضعًا فيه إيمانه، نهض من تحت الرّكام ونفض الغبار وشمّر عن ساعديه وراح يسعى بكلّ قواه، هنا وهناك، حتّى أعاد هذا الصّرح إلى أجمل ممّا كان عليه في السّابق ليس فقط في الحجر بل أيضًا في التّرتيب الدّاخليّ وفي التّنظيم الإداريّ، حتّى كادت المطرانيّة تُبعث من جديد، في الخارج وفي الدّاخل، ومعها الأبرشيّة الّتي التفّت حول راعيها ومحضته حبّها وثقتها. وقد قال في تلك الحادثة "إننا لا نعيد بناء حجر وحسب بل نعيد بناء الإيمان في النّفوس عبر بناء الحجر. وهذا البناء سيكون للأجيال فعل إيمان بالأعجوبة الحاصلة وفعل شكر للسّيّدة الّتي اجترحت الأعجوبة".
أمّا السّياسة فكانت في نظر أخينا الرّاقد في الرّبّ كيف نعيش في هذا العالم نحن الّذين لسنا من هذا العالم، كما قال يسوع، كيف نؤدّي رسالتنا نحن المسيحيّين في عالم بعيد عن الله إن لم نقل يحارب الله، في عالم يطغى عليه الشّرّ بكلّ أشكاله. هذا هو التّحدّي الكبير الّذي يواجهه كلّ مسؤول في الكنيسة، بل كلّ مسيحيّ. ليست السّياسة في المسيحيّة هدفًا بل وسيلة من أجل حياة أفضل على الأرض. الكنيسة لا "تشتغل" بالسّياسة إنّما السّياسة بعد من حياة الكنيسة قائم على قول السّيّد المسيح "إنّما انا أتيت لتكون لهم الحياة". هذه السّياسة وصفها المطران أندره بقوله "الدّفاع عن كرامة الإنسان، المطالبة بحقوقه على الدّولة وعلى المجتمع، لرفع الظّلامة عنه، لتأمين الحاجات الأساسيّة له، لتحريره من الاستغلال والسّيطرة الفرديّة. وقد رفعنا الصّوت عبر شتّى وسائل الإعلام وبلغ صوتنا مسامع القاصي والدّاني وأحدث هزّات في الضّمائر، وقد تحمّلنا الكثير من جراء هذه المواقف وتألّم معنا وبسببنا كثيرون". أجل سياسة الكنيسة هي إيقاظ الضّمائر وإنارة القلوب والأذهان.
وختم البطريرك العبسيّ قائلاً: "اليوم يغادرنا المطران أندره إلى الأخدار السّماويّة. اليوم يفقد سينودس كنيستنا أخًا وصديقًا وشريكًا ورفيق درب، يفقد مطرانًا حاملاً لأفكار نيّرة متقدّمة جريئة، مطرانًا واضحًا صريحًا ربطتنا به علاقات طيّبة حلوة جعلته يحوز ثقة إخوته ومحبّتهم وتقديرهم، يلجأون إلى حكمته وخبرته في إدارة شؤون الكنيسة.
تفقد كنيستنا الملكيّة اليوم رسولاً مقدامًا غيورًا، وجهًا مشرقًا، ركنًا صلبًا، عمودًا روحيًّا، رجلاً وطنيًّا من رجالها. ما كان المطران أندره رجل دين. كان المطران أندره رجل كنيسة. "يا ربّ لو كنت هنا لما مات أخي" . هكذا قالت مريم ومتى لك يا يسوع. أمّا نحن اليوم فنقول لك: ياربّ أنت هنا وأخونا أندريه لم يمت. أجل يا ربّ نحن نؤمن أنّك أنت القيامة والحياة. يا ربّ في هذه الأيّام الميلاديّة الّتي ننتظر فيها مجيئك وفرحك ناديت عبدك أندره إلى فرحك، إلى راحة قدّيسيك. أيّها الإله الّذي قبل الدّهور المولود إنسانًا من أجل خلاصنا أعطنا من هذا الفرح فلن نذوق الموت أبدًا".