الفاتيكان
18 آذار 2022, 12:10

ماذا قال واعظ القصر الرّسوليّ في تأمّله الثّاني لزمن الصّوم حول السّرّ الإفخارستيّ؟

تيلي لوميار/ نورسات
ألقى واعظ القصر الرَّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا صباح الجمعة تأمّله الثّاني لزمن الصّوم بعنوان "خذوا كلوا: هذا هو جسدي" وذلك في قاعة بولس السّادس في الفاتيكان بحضور البابا فرنسيس.

إستهلّ الكاردينال كانتالاميسا تأمّله بالقول بحسب "فاتيكان نيوز": "نواصل تأمّلاتنا حول السّرّ الإفخارستيّ. إنّ موضوع تعليم اليوم هو الجزء المركزيّ من القدّاس، الصّلاة الإفخارستيّة، أو النّافور، والذي محوره التّقديس. وسوف نأخذه من خلال وجهتي نظر في الاعتبار نوعين: إحداهما ليتورجيّة وطقسيّة، والأخرى لاهوتيّة وحياتيّة. وبناءً على بعض الدّراسات الحديثة، خاصّة تلك التي أجراها لويس بوير، أودّ أن أحاول أن أُسلّط الضّوء على الإفخارستيّا المسيحيّة فيما نضع روايات الإنجيل على أساس خلفيّة ما نعرفه عن الطّقوس اليهوديّة لوجبات الطّعام، والتي ترفع حداثة بادرة يسوع إلى أقصى الحدود.

إنّ الصّلة بين الطّقس القديم والجديد يُعطيها لنا نصّ الـ" Didachè"، وهو نصٌّ يعود إلى حقبة الرّسل ويمكننا أن نعتبره أوّل مسودّة لصلاة إفخارستيّة. فقد كان يتألّف الطّقس في الهيكل من سلسلة من الصّلوات تسمّى "البركة" والتي تُرجمت إلى اللّغة اليونانيّة بكلمة "إفخارستيّا". كانت الوجبة تبدأ رسميًّا فقط عندما يكسر ربّ العائلة أو رئيس الجماعة الخبز الذي كان يوزّع على جُلساء المائدة. وفي الواقع، أخذ يسوع الخبز، وتلا البركة، وكسره ووزعه قائلاً: "هذا هو جسدي الذي يُبذَلُ من أَجلِكم". وهنا يُصبح الطّقس - الذي كانت مجرّد تحضير - حقيقة. بعد بركة الخبز، كانت تُقدّم الأطباق المعتادة. وعندما يكون الطّعام قد أوشك على الانتهاء، يستعدُّ جلساء المائدة للطّقس الذي يختتم الاحتفال ويعطيه المعنى الأعمق. يغسل الجميع أياديهم، كما في البداية. بعدها، إذ يوضع أمامه كأسًا من الخمر ممزوجًا بالماء، يدعو مترئِّس المائدة إلى تلاوة صلوات الشّكر الثّلاث: الأولى لله الخالق، والثّانية من أجل التّحرّر من مصر، والثّالثة لكي يواصل الله عمله في الحياة الحاضرة؛ وفي ختام الصّلاة، تُمرّر الكأس من يد إلى يد لكي يشرب الجميع. هذا، وهو الطّقس القديم الذي قام به يسوع مرّات عديدة في حياته.

لكن يخبرنا القدّيس لوقا أنه بعد العشاء أخذ يسوع الكأس قائلاً: "هذي هي كأْسُ دمي، دمِ العهدِ الجديدِ الأَبديّ، الذي يُراقُ عنكم". لقد حدثَ أمرٌ حاسم عندما أضاف يسوع هذه الكلمات إلى صيغة صلاة الشّكر، أيّ إلى صلاة البركة اليهوديّة. لقد كان هذا الطّقس عشاء مقدّس يتمّ فيه الاحتفال بالله المخلّص ويرفع له الشّكر، هو الذي افتدى شعبه ليقطع معهم عهد حب، يُبرم بدم حمل. والآن، في اللّحظة التي قرّر فيها يسوع أن يبذل حياته من أجل أحبّائه كالحمل الحقيقي، هو يعلن أنّ العهد القديم الذي كانوا يحتفلون به جميعًا بشكل ليتورجيّ قد انتهى. في تلك اللّحظة، وببضع كلمات بسيطة، أبرم العهد الجديد والأبديّ مع أحبّائه بدمه. وإذ أضاف الكلمات "إِصنَعوا هذا لذكري" منح يسوع طابعًا أزليًّا لعطيّته.

لننتقل الآن إلى وجهة النّظر الأخرى، الشّخصيّة والحياتيّة، أيّ الدّور الذي نلعبه نحن الكهنة والمؤمنون في تلك اللّحظة من القدّاس. لم نعد في الواقع "كهنة على رتبة ملك يصادق". نحن كهنة "على رتبة يسوع المسيح"، وعندما نقف على المذبح نحن نعمل "في شخص المسيح"، أيّ أنّنا نمثل الكاهن الأعظم الذي هو المسيح. وتشرح الرّسالة إلى العبرانيّين ما تقوم عليه حداثة وفرادة كهنوت المسيح الذي "دَخَلَ القُدْسَ مَرَّةً واحِدَة، لا بِدَمِ التُّيوسِ والعُجول، بل بِدَمِه، فحَصَلَ على فِداءٍ أَبَدِيّ". كلّ كاهن يقدّم شيئًا خارجيًّا عن نفسه، أمّا المسيح فقد قدّم نفسه؛ كل كاهن يقدّم القرابين، أما المسيح فقد قدّم نفسه قربانًا! في المسيح أصبح الله قربانًا. ولم يعد البشر هم الذين يقدّمون الذّبائح إلى الله لإرضائه وإنّما الله هو الذي ضحّى بنفسه من أجل البشريّة، وأسلم ابنه الوحيد للموت من أجلنا. إنَّ يسوع لم يأتِ بدم الآخرين وإنّما بدمه. ولم يضع خطاياه على أكتاف الآخرين - حيوانات أو مخلوقات البشريّة - لكنّه وضع خطايا الآخرين على كتفيه: "حَمَلَ خَطايانا في جَسَدِه على الخَشَبة لِكَي نَموتَ عن خَطايانا فنَحْيا لِلبِرّ". هذا كلّه يعني أنّه علينا أن نكون في القدّاس كهنة وقرابين في الوقت عينه.

هذا كلّه لا ينطبق فقط على الكهنة وإنما على جميع المعمّدين. ونقرأ في الدستور العقائدي في الكنيسة "نور الأمم": يشترك المؤمنون بكهنوتهم الملوكيّ في تقديم الإفخارستيّا، ويمارسون هذا الكهنوت بقبولهم الأسرار، ثمّ بالصّلاة والحمد وشهادة السّيرة المقدّسة، ثم بالكفر بالذّات والمحبّة الفعّالة... وباشتراكهم في ذبيحة الإفخارستيّا، ينبوع وقمّة كلّ حياة مسيحيّة، يقدّمون لله الذّبيح الإلهيّ ويقدّمون ذواتهم معه. وهكذا بالتّقدمة كما بالتّناول المقدّس، يأخذ الكلّ حصّته من العمل الطّقسيّ لا على السّواء بل على النّحو الذي له". هكذا تصنع الإفخارستيّا الكنيسة: الإفخارستيّا تصنع الكنيسة، وتجعل منها إفخارستيّا! إنّ الإفخارستيّا ليست فقط مصدر قداسة الكنيسة أو سببها، وإنّما هي أيضًا "شكلها"، أيّ نموذجها. وبالتّالي على قداسة المسيحيّ أن تتمَّ بحسب "شكل" الإفخارستيّا. يجب أن تكون قداسة إفخارستيّة. ولذلك لا يمكن للمسيحيّ أن يحُدَّ نفسه بالاحتفال بالإفخارستيّا وحسب، وإنّما عليه أن يكون أيضًا إفخارستيّا مع يسوع.

يمكننا الآن أن نستخلص التّبعات العمليّة لهذه العقيدة على حياتنا اليوميّة. وإن كنّا نحن أيضًا نتوجّه خلال صلاة التّقديس إلى إخوتنا وأخواتنا ونقول: "خذوا كلوا: هذا هو جسدي. خذوا واشربوا: هذا هو دمي"، فعلينا أن نعرف ماذا يعني "الجسد" و"الدّم"، لكي نعرف ما نقدّمه. إنَّ كلمة "جسد"، في الكتاب المقدّس، لا تشير إلى عنصر أو جزء من الإنسان الذي، إذ اتّحد مع المكوّنات الأخرى التي هي النّفس والرّوح، يشكّل الإنسان الكامل. بتأسيسه لسرِّ الإفخارستيّا، ترك لنا يسوع حياته كلّها كعطيّة، من اللّحظة الأولى للتّجسّد حتّى اللّحظة الأخيرة، بكلّ ما ملأ تلك الحياة بشكل ملموس: الصّمت، والعرق، والكدّ، والصّلاة، والنّضال، والإذلال. ثمّ قال يسوع: "هذا هو دمي". ماذا يضيف بكلمة "دم" إذا كان قد وهبنا حياته كلّها في جسده؟ يضيف الموت! بعد أن أعطانا الحياة، هو يعطينا أيضًا أثمن جزء منها، وهو موته. في الواقع، لا يشير مصطلح "الدّم" في الكتاب المقدّس إلى جزء من الجسد، أيّ جزء من الإنسان؛ وإنّما يشير إلى حدث: الموت. إذا كان الدّم هو مركز الحياة (كما كان يعتقد حينها)، فإنّ "سفكه" هو علامة للموت. والإفخارستيّا هي سرّ جسد الرّبّ ودمه، أيّ سرّ حياة الرّبّ وموته!

والآن إذ نصل إلينا، ما الذي نقدمه بتقديمنا أجسادنا ودمنا، مع يسوع، في القدّاس؟ نحن أيضًا نقدّم ما قدّمه يسوع: الحياة والموت. بكلمة "جسد"، نحن نقدّم كلّ ما يشكّل بشكل ملموس الحياة التي نحياها في هذا العالم، خبرتنا: الوقت، والصّحّة، والطّاقة، والمهارات، والعاطفة، وربّما مجرد ابتسامة. وبكلمة "دم"، نعبّر أيضًا عن تقدمة موتنا. ولكن هذا كلّه يتطلّب منّا، ما إن نخرج من القدّاس، أن نبذل قصارى جهدنا لكي نحقق ما قلناه؛ أيّ أن نسعى حقًا، بكل محدوديّتنا، لكي نقدّم لإخوتنا "جسدنا"، أيّ الوقت والطّاقة والاهتمام؛ بكلمة واحدة، حياتنا.

أريد بمساعدة مثال بشريّ أن ألخّص ما يحدث في الاحتفال الإفخارستيّ. لنفكّر في عائلة كبيرة فيها ابن، بكر، معجب بوالده ويحبّه كثيرًا. وفي عيد ميلاده يريد أن يقدّم له هديّة ثمينة. وقبل أن يقدّمها له، طلب سرًّا من جميع إخوته وأخواته أن يوقّعوا على الهديّة. لذلك يصل هذا إلى الأب كعلامة على حبّ جميع أبنائه، دون تمييز، حتّى لو دفع ثمن ذلك في الواقع واحدًا منهم فقط. وهذا ما يحدث في الذّبيحة الإفخارستيّة. يسوع معجب ويحبّ الآب السّماويّ إلى ما لا نهاية. ويريد أن يمنحه كلّ يوم، حتّى نهاية العالم، أثمن هديّة يمكن للمرء أن يفكّر فيها، عطيّة حياته. ولذلك هو يدعو في القدّاس جميع إخوته وأخواته لكي يوقِّعوا على الهديّة لكي تصل إلى الله الآب كهديّة من جميع أبنائه، حتّى لو دفع ثمنها واحدًا منهم فقط. ويا له من ثمن!

إنَّ توقيعنا هو بضع قطرات الماء التي تُمزج بالخمر في الكأس. إنّها مجرّد قطرات ماء، ولكن إذ تمتزج بالكأس تُصبح شرابًا واحدًا. إنَّ توقيع الجميع هو الـ "آمين" التي تُعلنها الجماعة أو تُنشدها في نهاية التّمجيد: "فبالمسيح، ومع المسيح، وفي المسيح، نرفعُ إليك، أيّها الآبُ القدير، في وَحْدةِ الرّوحِ القدس، كلَّ إِكرامٍ ومجد، إلى أَبدِ الدّهور!... آمين. ولكنّنا نعلم أنَّ الذين وقّعوا على التزام ما ينبغي عليهم أن يحترموا توقيعهم. هذا يعني أنه عندما نخرج من القدّاس، يجب علينا نحن أيضًا أن نجعل من حياتنا عطيّة محبّة للآب وللإخوة. وبالتّالي نحن مدعوّون لا لأن نحتفل بالإفخارستيّا وحسب، وإنّما لكي نجعل من أنفسنا أيضًا إفخارستيّا. ليساعدنا الله لكي نحقّق ذلك!"