هل يصعد الإنسان إلى السّماء؟
"عيد الصّعود الإلهيّ هو الحدث الأخير لحياة المسيح على الأرض، والظّهور الأخير للسّيّد القائم من بين الأموات، وبه تنتهي مسيرة المسيح الجسديّة على الأرض. إنّ لعيد صعود السّيّد معنى عظيمًا وأهميّة عند المسيحيّين وفي الحياة الرّوحيّة، لأنّه يرتبط بتألّه وبقداسة الإنسان .
من منّا لا يشعر بحلاوة وبعذوبة تلك العبارات التي بارك فيها يسوع تلاميذه المحبوبين حين ارتفاعه عنهم، إذ يقول الإنجيل: "ورفع يديه وباركهم وفيما يباركهم انفرد عنهم وصعد إلى السّماء".
هذا الإله الحنون والمعلّم العطوف الذي طلب من الله الآب أن يعطيهم معزّيًا يقيم معهم إلى الأبد (يوحنّا 15: 1 – 2) وهو الذي أطلق على تلاميذه صفة أحبّائي وأغصانه، هو الذي طلب من أبيه أن يحفظهم باسمه وأن يكونوا واحدًا.
هناك سؤال؟ ما سبب صعود المسيح بعد أربعين يومًا من قيامته. على الأكيد كان بمقدور المسيح أن يصعد مباشرة بعد قيامته لكنّه أحجم عن ذلك كي لا تبدو القيامة وهميّة. بعد قيامته أظهر المسيح نفسه لتلاميذه وعمل المعجزات، وبهذا ثبت إيمانهم كي يكونوا شهودًا للقيامة.
لهذا الصّعود هو زينة كلّ الأعياد. إنّه كمال كلّ الأعياد السّيّديّة، نحن نعرف أنّ الفصح هو عيد الأعياد لأنّ في القيامة يغلب الموت، لكن حتّى هذا العيد ليس فيه ملء الفرح لأنّ المسيح لم يزل على الأرض .
أمّا عيد الصّعود فقد ملأ العالم بالابتهاج، لأنّ المسيح فتح السّماوات وأرنا رؤية فوق العادة.
إذًا أهميّة عيد الصّعود هي في أنّ الجسد البشريّ أصبح بإمكانه أن يجلس عن يمين الله الآب. وهكذا وكما بقيامة الرّبّ يسوع من بين الأموات أصبح بكر القائمين أيضًا بصعوده أصبح بجسده بكر الطّبيعة البشريّة التي جلست عن يمين الله الآب.
يعني هذا الكلام أصبح بإمكان الإنسان أن يتألّه وأن يتقدّس وأن يجلس إلى جانب عرش الله، لهذا يربط الآباء القدّيسون القداسة والتّألّه بعيد الصّعود. من هذا المنظار يقول القدّيس غريغوريوس بالاماس: إنّ القيامة تخصّ كلّ البشر بينما الصّعود هو للقدّيسين فقط. يشرح بالاماس هذا القول فيقول: الكلّ سوف يقومون عند مجيء المسيح الثّاني الأبرار والخطأة، ولكن لن يرتفع أو لن يرفع الجميع إلى السّماء، وحدهم الأبرار هم سوف يستحقّون هذا .
من العادة كلّ إنسان عند تركه هذا العالم يعطي وصايا للذين يحبّهم. هذا بالضّبط ما نراه أيضًا في المسيح. فهو أعطى تلاميذه وعدًا ووصيّة. الوعد هو إرساله الرّوح القدس. والوصيّة هي أن لا يتركوا أورشليم قبل أن يتلقّوا الرّوح القدس في يوم العنصرة .
أطاع التّلاميذ الوصيّة فرجعوا إلى أورشليم بفرح وكانوا في كلّ حين في الهيكل يسبّحون ويباركون الله. أيّ صعدوا إلى العلّيّة وكانوا يواظبون بنفس واحدة على الصّلاة والتّضرّعات، كانوا فرحين جدًّا مع أنّهم حرموا من المسيح، فرحهم عظيم لأنّهم متأكّدين أنهم سيحصلون على الرّوح القدس.
إذًا، بين الصّعود والعنصرة هناك فترة من الصّلاة والتّضرّع والهدوء، هدوء النّفس والجسد. هذا يدلّنا ويعلّمنا بأنّه لا أحد يستطيع أن يكتسب الرّوح القدس إلّا من خلال الصّلاة النّقيّة وغير الشّكليّة والدّائمة والتّضرّعات والصّحو الدّاخليّ وحفظ الوصايا وطاعة الوصايا، كما فعل التّلاميذ، حفظوا الوصايا وطاعوها، فاكتسبوا الرّوح القدس وحلّ عليهم .
لكي نختبر صعود المسيح ونكون من الصّاعدين إلى السّماء ونفهم معاني سرّ هذا العيد، علينا أن نرجع إلى أورشليم، كما رجع إليها التّلاميذ، إنّ كلمة أورشليم تعني سلام. أيّ أن نرجع إلى سلام القلب وطهارة القلب ونسبّح الله كلّ حين ونباركه دومًا. وقتها نكتسب الفضائل المقدّسة خاصّة التّواضع الحقيقيّ والمحبّة المسيحيّة وأن نحتمل كلّ محنة وتجربة وإهانة، بل يجب أن تكون لدينا الرّغبة بالشّهادة لأجل المسيح .
القداسة والسّلام الدّاخليّ لا يكونان بالابتعاد عن الآخرين بل يكونان في وسط الآخرين في وسط الكنيسة أيّ في وسط مملكة الله.
إذًا علينا واجبات كوننا أعضاء في الكنيسة، نحن أبناء مدعوّون أن نعيش القداسة لأنّ الله منحنا وأعطانا هذه الكنيسة لنصنع سلامًا مع الله وسلامًا مع البشر.
علينا أن نعود إلى العلّيّة التي هي ضميرنا حيث ينبغي أن تكون في صلاة ثابتة حقيقيّة ومستمرّة ونهتم بتنقية أنفسنا من كلّ الأفكار الخبيثة. هذا هو الفرح الحقيقيّ والعيد الحقيقيّ، هذا هو الصّعود الإلهيّ، الذي يدعونا إلى الكمال والملء الرّوحيّين .
أطلب من الرّبّ يسوع وأتضرّع إليه، كما رفع يديه المقدّستين الطّاهرتين البريئتين المحييتين وبارك تلاميذه عند صعوده، أن يباركنا الآن وكلّ آن، كي ننال رضاه شاخصين إليه كلّ حين ساجدين لعظمته ومعترفين بضعفكم.
أطلب منه أن يسهّل لنا طريق الإيمان والتّقوى وأن يجعلنا نسلك في هذه الحياة طريق القداسة والصّحو الدّاخليّ ويملأ قلوبنا فرحًا وسلامًا، عندئذ سيحلّ علينا حتمًا الرّوح القدس في يوم العنصرة عمّا قليل، إنشاللّه. آمين".