يونان في ذكرى مذبحة سيّدة النّجاة- بغداد: هذه الكاتدرائيّة هي فعلًا أيقونة المحبّة والسّلام
المشاركون خلال القدّاس، من بينهم أهل الشّهداء، رفعوا الصّلاة من أجل تسريع الخطى لإعلان تطويبهم من قِبَل الكرسيّ الرّسوليّ.
وفي عظته، أشاد يونان بكلمات راعي الأبرشيّة، وقال بحسب إعلام البطريركيّة: "وفيها تذكَّرْنا معه هذه الأيقونة الرّائعة الجمال الّتي تكرِّم شهداءنا وشهيداتنا الّذين سفكوا دماءهم على مذبح الرّبّ وهم يشاركون في القدّاس قبل 15 سنة. سيادته يقول إنّ البطريرك أتى عدّة مرّات إلى هنا، وصلّى وشجّع وطلب من المؤمنين أن يكونوا دومًا واثقين وراجين.
أتينا مرّاتٍ عديدةً، لكن بمجيئنا وقدومنا إليكم، أيّها الأحبّاء، تعلّمنا الكثير من تقواكم وإيمانكم ورجائكم. بالرّغم من كلّ المآسي الّتي حصلت في بلدكم، بلدنا، بلاد الرّافدين، لا تزالون محافظين على الإيمان والرّجاء. وأينما أذهب حول العالم، يسألونني كيف هي أحوال أولادكم في العراق، فأجيبهم: نشكر الله، رغم كلّ الآلام الّتي قاسوها، فهم يعطوننا مثالًا ببقائهم أمناء للرّبّ. وهذا الأمر نجده أيضًا لدى أولادنا الّذين غابوا عنّا وقطعوا البحار والمحيطات، ففي كلّ البلاد الّتي يتواجدون فيها، يمدحونهم لتقواهم وإيمانهم ورجائهم".
وأضاف: "في رسالة مار بولس إلى أهل روما سمعنا أنّ لا شيء يمكن أن يبعدنا ويفصلنا عن محبّة الرّبّ، وهذا الأمر ليس فقط كلماتٍ وأقوالًا. فبولس، رسول الأمم، وجّه رسالته إلى أهل روما، حيث نال هو أيضًا الاستشهاد، على مثال الرّبّ يسوع. إذًا، أيّها المبارَكون، نعم، نحن أبناء وبنات وإخوة وأخوات الّذين قدّموا لنا المثال بالأمانة للرّبّ يسوع وباتّباعه، هو القائل لنا: من أراد أن يكون لي تلميذًا، فليحمل صليبه ويتبعني.
وسمعنا من الإنجيل المقدّس بحسب القدّيس متّى، ما ندعوه موعظة الجبل، وهي الموعظة الأولى الّتي فاهَ بها الرّبّ يسوع، المعلّم الصّالح، أمام الجموع، هذه الموعظة الّتي سمعنا فيها تسع تطويبات، يطمئننا يسوع ويقول: طوبى للحزانى فإنّهم يتعزّون. هذه ليست كلماتٍ فقط أو مواعظ وخطابات، وليست ما نسمّيه حوارات في مؤتمرات، لكنّها كلمات نابعة من قلب الرّبّ الّذي أعطانا المثال عن تضحيات فائقة: ما من حبٍّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّائه.
نحن موجودون اليوم في هذا المساء في هذه الكاتدرائيّة الّتي هي بمثابة أيقونة. إنّها فعلًا أيقونة المحبّة والسّلام، بالرّغم من الآلام والمآسي الّتي شهدَتْها. صحيح أنّكم عشتم، أحبّاءنا، واختبرتم هذه المأساة الّتي تمّت على يد أناس يكفّرون غيرهم، لا يعرفونهم، ولكن يدّعون بأنّهم مؤمنون. نعم، هذه الكاتدرائيّة- الأيقونة ستبقى، لكنيستنا السّريانيّة ولمسيحيّي العراق، شهادةً لإيمان أحبّائنا المسيحيّين العراقيّين، رغم كلّ شيء".
كما تناول يونان في عظته الانتخابات النّيابيّة العراقيّة الّتي ستتمّ بعد بضعة أيّام، وقال: "نعم، نسمع الكثير، لكنّنا ندعوكم، أيُّها المبارَكون، ألّا تتركوا أبدًً واجباتكم الوطنيّة، بل تشاركوا الآخرين، مهما كانوا، في خدمة هذا البلد الّذي طالت سنوات عذابه، ويجب أن يقوم وينهض. علينا أن نعرف أن نشارك، حتّى ولو كنّا مكوِّنًا صغيرًا كمسيحيّين، نشارك في حضورنا الفاعل وتضامننا واعترافنا بأنّ المرحلة الانتقاليّة الّتي تعيشونها لا بدّ وأن تنتهي بازدهار رائع لهذا البلد المحبوب العراق".
وتضرّع في الختام "إلى الرّبّ يسوع، بشفاعة أمّنا مريم العذراء، سيّدة النّجاة، شفيعة هذه الكاتدرائيّة- الأيقونة، كي يحمي الجميع، لاسيّما عائلاتنا، صغارنا وشبّاننا وشابّاتنا، فنبثّ فيهم روح الرّجاء، مهما كانت التّضحيات والتّحدّيات. علينا أن نبقى دائمًا رسل السّلام والمحبّة والفرح، بشفاعة أمّنا السّماويّة وأحبّائنا الشّهداء والشّهيدات الأبرار، وكلّ من يحبّ الرّبّ، ويكون فاعل سلام أينما كان".
وكان المطران أفرام يوسف عبّا قد ألقى كلمة رحّب بالبطريرك، قائلًا: "بفرحٍ غامرٍ نستقبلُكُم اليوم، أبانا الطّوباويّ، في كاتدرائيّة سيّدة النّجاة "أمّ الشّهداء"، أيقونة السّريان الرّائعة بجمال حلّتِها وصفاء روحانيّتها، أيقونةٍ تحملُ رسمَ ثمانيةٍ وأربعينَ شهيدًا وشهيدةً من خيرة أبنائها وبناتها، من رجالٍ ونساءٍ وشبابٍ وشابّاتٍ وأطفالٍ، ومعهم كاهنان وَرِعان، الأب ثائر عبدال والأب وسيم القسّ بطرس، قدّمُوا ذواتهم قربانًا وذبيحةً محرقةً وبخورًا عطرًا على مذبح الرّبّ، لتمتزج دماؤهم الزّكيّة بدم الحَمَلِ الإلهيّ أثناء الذّبيحة الإلهيّة الّتي كانوا يقيمونها ويشتركون فيها، قبلَ خمس عشرة سنةً في مثلِ هذا اليوم، ليلة عيد جميع القدّيسين، في هذه الكاتدرائيّة المبارَكة، في الحادي والثّلاثين من تشرين الأوّل سنة 2010. إنّه عرسٌ مجيدٌ تحتفل به أبرشيّة بغداد للسّريان الكاثوليك اليوم، في ذكرى دخول أبنائها وبناتها إلى الملكوت، يستقبلهم الآب السّماويّ بفرحٍ "لا يُنطَقُ به ومجيد"، إذ أدّوا الشّهادة الحيّة لإيمانهم المسيحيّ، فداءً وقربانًا لصمود وتضحيات المسيحيّين في العالم عامّةً، وفي العراق خاصّةً، وللثّبات في الحبّ الكبير الّذي يفيضه الرّبّ في قلوبهم، ولكلِّ إنسانٍ شريفٍ، مهما كان شكله ولونه وجنسه.
لقد كانت شهادتهم ملحمةً سطّرَتْ بطولات إيمان هؤلاء الأبطال الأفذاذ، ومن خلالهم المؤمنين في كنيسة العراق، بل مسيحيّي الشّرق، هذه المنطقة المبارَكة الّتي شكّلَتْ، على مرّ تاريخ إيماننا المسيحيّ، تلك الصّخرةَ الرّاسخةَ الّتي لم تستطِعْ كلُّ الأمواج العاتية الّتي تقاذفَتْها من النّيل من صمودها وعزّتها وإبائها، بل زادَتْها رسوخًا وتجذُّرًا في الإيمان بالرّبّ يسوع الّذي به وحده الخلاص، وله وحده تجثو وتسجد كلُّ ركبةٍ في السّماء وعلى الأرض. إنّنا، فيما نستذكر تلك الفاجعةَ المرعبةَ باستشهاد الأبوين ثائر ووسيم ورفاقهم المؤمنين في الذّكرى السّنويّة الخامسة عشرة، لا يغيب عن بالنا استشهاد الآلاف من المسيحيّين على مرّ العصور، أولئك الّذين غسلوا ثيابهم وبيّضوها بدم الحَمَلِ الإلهيّ، ليقتادهم الرّبّ إلى ينابيع ماءٍ حيّةٍ ويمسح كلَّ دمعةٍ من عيونهم (سفر الرّؤيا 7: 14 – 17).
أشكركم، غبطةَ أبينا البطريرك، من أعماق القلب، فأنتم لا توفِّرون مناسبةً كي تكونوا بيننا، وترأسوا هذا الاحتفال المهيب، كما فعلتم في غالبيّة احتفالات هذه الذّكرى طوال السّنوات الأربعة عشرة السّالفة، والّتي، إن لم تتمكّنوا من حضور بعضها، فلم تفوِّتوا إرسال كلمة بركةٍ أبويّةٍ وتعزيةٍ بلسمَتْ جروحنا الثّخينة، مُظهرين، كما دائمًا، أبوّتكم ورعايتكم الّتي تشمل أبناءكم وبناتكم في كلّ مكانٍ في مختلف أصقاع الأرض، شرقًا وغربًا. ولا غروَ، فهي شيمتُكم، بل غيضٌ من فيض ما حباكُم اللهُ من صفاتٍ ومزايا زيّنَتْكم، مهما بلغَت التّضحيات وعَظُمَت التّحدّيات. نعم، سيّدي صاحبَ الغبطة، بحضوركم بيننا اليوم في بيتكم وفي أبرشيّتكم، وببركتكم الأبويّة، تعزِّزون فينا روح الثّبات بالإيمان، وتمنحونا قوّة الرّجاء، فوق كلّ رجاءٍ، في خضمّ الآلام والمعاناة. وأنتم لا تألُونَ جهدًا، صارخين بصوتكم الصّادح في كلِّ مكانٍ وُجِدْتُم فيه أو دُعيتُم إليه، في الشّرق والغرب، في المحافل المحلّيّة والإقليميّة والدّوليّة، تدقُّون ناقوس الخطر، مخاطبين الضّمير العالمي، "إنْ بقي هناك ضميرٌ في دنيا النّفاق"، على حدّ تعبيركم في رسالتكم الأبويّة إلى أبرشيّتنا إبّان مذبحة سيّدة النّجاة عام 2010، وتنادون مطالبين بإنصاف مسيحيّي الشّرق، وإعطائهم حقوقهم الطّبيعيّة، بالمساواة مع سائر المواطنين، وبالكرامة الإنسانيّة الحقّة، والمواطنة الكاملة، كي يتمكَّنوا من متابعة مسيرتهم بالشّهادة لإيمانهم وتراث آبائهم وأجدادهم في أرض منشئهم.
كنتم، يا صاحبَ الغبطة، ولا تزالون تحملون مأساة مذبحة كاتدرائيّة سيّدة النّجاة الّتي تجمعنا اليوم إلى المحافل الدّوليّة، منادين على الملأ أمام العالم كلّه، بفظاعة تلك الجريمة النّكراء والمأساة الّتي تشكّلُ وصمةَ عارٍ وخِزيٍ على جبين العالم. وبكلِّ جهدٍ تتابعون اليوم ملفَّ دعوى تطويبهم في القريب العاجل، فنرفع شهداءنا الأبطال على مذابح الكنيسة طوباويّين، ثمَّ قدّيسين نتشفَّع بهم، وننال بصلواتهم وشفاعتهم فيضَ النِّعَمِ والبركات السّماويّة. وكنَّا قد رفَعْنا الملفّ إلى مجمع دعاوى القدّيسين في الفاتيكان منذ سنة 2018، ونحن ننتظر إعلانهم من قِبَلِ قداسة بابا روما طوباويّين في الكنيسة السّريانيّة الكاثوليكيّة، ثمَّ قدّيسين في الكنيسة الجامعة.
أنتم يا سيّدنا الجوهرة الّتي ترصّع تاج كنيستنا، وتعطينا القوّة للثّبات في الإيمان، فأفضالكم العميمة وإنجازاتكم الكبيرة، روحيًّا وراعويًّا وعمرانيًّا واجتماعيًّا وسواها الكثير الكثير، تنطق بما قدّمتُموه للكنيسة والمؤمنين في كلِّ مكان. ولا بدَّ أنَّ التّاريخ سيشهد لكم، أنَّكم باعث مجد كنيستنا السّريانيّة الكاثوليكيّة الأنطاكيّة في القرنين العشرين والحادي والعشرين دون منازعٍ، فلولا وجود أبونا جوزف يونان، وسيّدنا المطران مار أفرام جوزف يونان، وغبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثّالث يونان، لَمَا وصلَتْ كنيستُنا إلى ما هي عليه اليوم من تقدُّمٍ وازدهارٍ يمجِّدُ اسمَ الرّبّ يسوع ويرفعُ شأنَها في العالم، كلِّ العالم. أدامكم الرّبّ، وأدعو لكم، بالأصالة عن نفسي، وبالنّيابة عن أبرشيّتي، أبرشيّة بغداد للسّريان الكاثوليك، إكليروسًا ومجالس الرّعايا ومؤمنين، بالصّحّة والعافية والعمر المديد، ومجدِّدين على الدّوام ولاءنا التّامّ وخضوعنا الكامل لكم، رأسًا وأبًا وراعيًا لكنيستنا السّريانيّة الكاثوليكيّة الأنطاكيّة، ولسنين عديدة يا أبانا صاحبَ الغبطة.
لا يفوتُني أن أحيِّيَ من هنا، جميعَ إخوتي الأحبار الأجلّاء المطارنة آباء سينودس كنيستنا السّريانيّة الكاثوليكيّة الأنطاكيّة الّذين كتبوا لي واعتذروا عن الحضور اليوم معنا بالجسد لأسبابٍ مختلفةٍ تتعلّق بالتزاماتٍ راعويّةٍ وكنسيّةٍ مسبَقةٍ، وهم يشاركونني الصّلاة بالرّوح، مع غبطة أبينا البطريرك، متضرّعين جميعًا إلى الرّبّ كي يؤهِّلَنا في القريب العاجل للوصول إلى إعلان تطويب شهدائنا الأبرار، ثمَّ تقديسهم، بإذن الله".
وإختتم عبّا بالقول: "أشكر حضوركم جميعًا، ولتكُنْ صلاةُ أمّنا مريم العذراء، سيّدة النّجاة، وصلاة شهدائنا الأبرار، شفيعةً لنا ولوطننا العراق الحبيب، ولمنطقتنا في الشّرق الأوسط، وللعالم، من أجل إحلال السّلام والأمان. آمين. بارخمور سيّدنا".
وبعد القدّاس، توجّه يونان بموكب حبريّ مهيب إلى مدافن الكهنة والشّهداء في فناء الكاتدرائيّة، حيث ترأّس تشمشت (خدمة) الشّهداء، راحةً لنفوس الشّهداء، وطلبًا لشفاعتهم.
بعدها بارك البطريرك يونان جماهير المؤمنين الّذين تحلّقوا حوله في ساحة الكاتدرائيّة طالبين بركته الأبويّة.
