الفاتيكان
27 كانون الثاني 2020, 11:30

البابا فرنسيس: إنّ كلمة الله الّتي تخلّص تأتي في عُقدنا وظلالنا

تيلي لوميار/ نورسات
أحيت بازيليك القدّيس بطرس في الفاتيكان "أحد كلمة الله"، في قدّاس احتفاليّ ترأّسه البابا فرنسيس، وألقى خلاله عظة قال فيها بحسب "فاتيكان نيوز":

""وبَدَأَ يسوعُ مِن ذلك الحِين يُنادي" (متّى 4، 17) هكذا يقدّم الإنجيلي متّى خدمة يسوع. هو، كلمة الله، قد جاء ليكلّمنا بكلماته وحياته. وفي "أحد كلمة الله" الأوّل هذا نذهب إلى بداية بشارته إلى ينابيع كلمة الحياة، يساعدنا إنجيل اليوم الّذي يقول لنا كيف وأين ولمن بدأ يسوع يبشّر.

كيف بدأ؟ بجملة بسيطة جدًّا: "تُوبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّمَوات". هذا هو أساس جميع خطاباته: أن يقول لنا إنّ ملكوت السّماوات قريب. وماذا يعني هذا الأمر؟ إنّ ملكوت السّماوات يعني ملكوت الله أو أسلوبه في الملك والقيام أمامنا. والآن يقول لنا يسوع إنَّ ملكوت السّماوات قريب وأنَّ الله قريب. هذه هي الحداثة والرّسالة الأولى: الله ليس بعيدًا وذلك الّذي يقيم في السّماوات قد نزل إلى الأرض وصار إنسانًا.

إنّها رسالة فرح: الله قد جاء ليزورنا شخصيًّا إذ صار إنسانًا. لم يأخذ حالتنا البشريّة كحسّ بالمسؤوليّة وإنّما محبّة بنا. أخذ بشريّتنا محبّة بنا. لقد أخذ الله بشريّتنا لأنّه يحبّنا ويريد أن يمنحنا مجانًا الخلاص الّذي لا يمكننا أن نقدّمه لأنفسنا. هو يرغب في أن يقيم معنا ويعطينا جمال العيش وسلام القلب وفرح أن يُغفر لنا ونشعر بأنّنا محبوبون. وبالتّالي يمكننا أن نفهم دعوة يسوع المباشرة: "توبوا" أيّ "غيّروا حياتكم". غيّروا حياتكم لأنّه قد بدأ أسلوب عيش جديد: انتهى زمن العيش لأنفسنا وبدأ زمن العيش مع الله ومن أجله ومع الآخرين ومن أجلهم بمحبّة وفي سبيل المحبّة. ويسوع يكرّر لك اليوم أيضًا: "تشجّع أنا بقربك أفسح لي المجال وحياتك ستتغيّر!". لذلك يعطيك الرّبّ كلمته لكي تقبلها كرسالة حبٍّ كتبها لك ليجعلك تشعر أنّه بقربك. إنّ كلمته تعزّينا وتشجّعنا وفي الوقت عينه تحثّ على الارتداد وتهزّنا وتحرّرنا من شلل الأنانيّة لأنّ كلمته تملك هذه القوّة: يمكنها أن تغيّر الحياة وتنقلنا من الظّلمة إلى النّور.

إن رأينا أين بدأ يسوع بشارته نكتشف أنّه بدأ من المناطق الّتي كانت تُعتبر "مُظلمة" في تلك الفترة. يحدّثنا الإنجيل والقراءة الأولى في الواقع عن الّذين كانوا يقيمون "في بُقْعَةِ المَوتِ وظِلالِه": إنّهم سكّان: "أرض زَبولون وأَرضُ نَفْتالي طَريقُ البَحرِ، عِبرُ الأُردُنّ، جَليلُ الأُمَم". جليل الأمم: هكذا كانت تُدعى المنطقة الّتي بدأ فيها يسوع بشارته لأنّه كان يقيم فيها أناس مختلفون وكانت عبارة عن خليط من الشّعوب واللّغات والثّقافات. فكان هناك البحر الّذي كان بمثابة تقاطع طرق، حيث كان يقيم صيّادو السّمك والتّجّار والأجانب وبالتّالي لم يكن المكان الّذي توجد فيه الطّهارة الدّينيّة للشّعب المختار ولكن وبالرّغم من ذلك هناك بدأ يسوع بشارته، من جليل الأمم، من الضّاحية.

يمكننا أن نفهم الرّسالة من ذلك: إنّ كلمة الله الّتي تخلّص لا تبحث عن أمكنة معقّمة وآمنة، بل تأتي في عقدنا وظلالنا. واليوم كما في الماضي يرغب الله في زيارة تلك الأماكن الّتي تعتقد بأنّه لن يصل إليها. كم من مرّة أغلقنا بابنا وفضّلنا الحفاظ على تشويشنا وعتمتنا وازدواجيّتنا. نغلق عليها في داخلنا فيما نذهب إلى الرّبّ حاملين صلاة شكليّة متنبّهين لكي لا تهزّنا حقيقته. لكنَّ يسوع يقول لنا إنجيل اليوم: "كان يَسيرُ في الجَليلِ كُلِّه، يُعَلِّمُ في مَجامِعِهم ويُعلِنُ بِشارَةَ المَلَكوت، ويَشْفي الشَّعبَ مِن كُلِّ مَرَضٍ وعِلَّة" وبالأسلوب عينه هو لا يخاف من أن يكتشف قلوبنا لأنّه يعرف أنّ مغفرته وحدها تشفينا وأنَّ حضوره وحده يحوّلنا وكلمته وحدها تجدّدنا. لنفتح له إذًا دروبنا الوعرة ولنسمح أن تدخل فينا كلمته "الحيّة الناجعة... الّتي بوسعها أَن تَحكُمَ على خَواطِرِ القَلْبِ وأَفكارِه" (راجع عبرانيّين 4، 12).

وختامًا مع من بدأ يسوع يتكلّم؟ يقول لنا الإنجيل: "كانَ يسوعُ سائرًا على شاطِئِ بَحرِ الجَليل، فرأَى أَخَوَيْنِ... يُلقِيانِ الشَّبَكةَ في البَحر، لأَنَّهما كانا صَيَّادَيْن. فقالَ لَهما: «اِتْبَعاني أَجعَلْكما صَيَّادَيْ بَشر»". لقد كان الصّيّادون موضوع دعوة يسوع وبالتّالي ليسوا أشخاصًا تمّ اختيارهم بدقّة وعناية على أساس قدراتهم كذلك ليسوا رجالاً أتقياء كانوا يصلّون في الهيكل وإنّما أشخاص عاديّون كانوا يعملون. نلاحظ ما قاله يسوع لهما: سأَجعَلْكما صَيَّادَيْ بَشر. يتحدّث إلى صيادين بلغة يمكنهما فهمها. لقد جذبهما انطلاقًا من حياتهما: يدعوهما حيث هما وكما هما لكي يشركهما في رسالته: "فتَركا الشِّباكَ مِن ذلك الحينِ وتَبِعاه"، ولماذا من ذلك الحين؟ لأنّهما شعرا بأنهما منجذبين إليه، لم يكونا سريعين وجاهزين لأنّهما نالا أمرًا ما، وإنّما لأنّ الحبّ جذبهما. لكي نتبع يسوع لا تكفينا الالتزامات الصّالحة وإنّما علينا أن نصغي إلى دعوته يوميًّا. هو وحده يعرفنا ويحبّنا حتّى النّهاية ويجعلنا نسير في عرض بحر الحياة، كما فعل مع التّلاميذ الّذين أصغوا إليه. لذلك نحن بحاجة لكلمته، لأن نصغي، وسط آلاف الكلمات اليوميّة، إلى تلك الكلمة الوحيدة الّتي لا تحدّثنا عن الأمور وإنّما عن الحياة.

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء لنفسح المجال لكلمة الله! ولنقرأ يوميًّا بضع آيات من الكتاب المقدّس، ولنبدأ من الإنجيل: لنتركه مفتوحًا على طاولة في البيت، لنحمله في جيوبنا، لنعرضه على هواتفنا ولنسمح له بأنه يلهمنا يوميًّا فسنكتشف أنّ الله قريب منا وبأنّه ينير ظلماتنا ويقودنا بمحبّة إلى عرض حياتنا".