العراق
13 شباط 2023, 10:30

رسالة البطريرك ساكو لزمن الصّوم

تيلي لوميار/ نورسات
وجّه بطريرك الكلدان مار لويس روفائيل ساكو رسالة راعويّة لمناسبة الصّوم، تحت عنوان "الصّوم مسيرة توبة وتغيير سلوك وتوجيه الحياة نحو الله والتّمسّك بكلدانيّتنا".

وكتب ساكو في الرّسالة، بحسب إعلام البطريركيّة:

"التّأكيد على الطّابع اللّاهوتيّ والرّوحيّ للصّوم

يعرف الصّوم بأنّه زمن الرّجاء في حياة المسيحيّ. والصّوم لا يقتصر على الجانب المادّيّ فحسب، إنّما الأهمّ هو العبور إلى الطّابع اللّاهوتيّ والرّوحيّ المؤسّس له، للتّغلّب على التّحدّيات الّتي يواجهها، خصوصًا أنّ القِيم الدّينيّة والأخلاقيّة تراجعت في زماننا، بسبب التّغييرات المتسارعة، وهيمنة التّقنيّات التّكنولوجيّة ودخول الإنترنت إلى الحياة، ممّا أدّى إلى حدوث بعض التّصدّع في البُنية الاجتماعيّة، واختلال مفهوم الحرّيّة والمسؤوليّة، وتهافت النّاس على كسب المال والنّفوذ من أجل الملذّات. وقد غَدَت غالبيّة المجتمعات أقلّ التزامًا بالدّين، وأقلّ حيويّة وحماسة وانضباطًا.  

أدّى ظهور هذه البيئة المعقّدة والهشّة إلى اللّامبالاة بالقيم الدّينيّة والأخلاقيّة، لذا تحاول الكنيسة خلق فرص (أزمنة طقسيّة) للتّفكير والنّقد الذّاتيّ والتّوبة والتّغيير، لتوجيه بوصَلة حياة المسيحيّين. المهمّ أن نقصد ونفعل. وكما يقول المثل الإنكليزيّ Practice makes perfect، أيّ التّدريب يصنع الكمال. قال يسوع لتلميذين أرادا أن يتبعانه: "هلمّا وأنظرا.. فذهبا ونظرا اين يُقيم، فأقاما معه ذلك اليوم" (يوحنّا 1/ 39)، أيّ أنّ المسيح هو المرجع الّذي لا بديل له. لذا على المسيحيّ أن يجدّد خياره مثل مار بطرس: "يا ربّ إلى من نذهب وعندك كلام الحياة" (يوحنّا 6/ 68).

المسيحيّ مدعوّ إلى القيام بالخطوات عينها، لتنفحه الإقامة مع يسوع بحياة الله من الدّاخل. يقول البابا الرّاحل بنديكتوس السّادس عشر:

"الإيمان ليس سوى أن نلمس يد الله في ظلمة العالم، فنسمع هكذا كلمة الله في الصّمت، ونرى الحبّ" (رياضة الصّوم الكبير في 23 شباط 2013).

تتدرج مسيرة زمن الصّوم ابتداءً من الصّيام ثمّ الصّلاة، والتّأمّل والتّوبة والاعتراف بالخطايا وإصلاح الذّات إلى الوصول إلى نور القيامة وفرح العيد. يرتكز صوم المسيحيّين على صوم يسوع، من خلاله تهيئة الذّات لاستقبال الله في حياتنا. هذا هو رجاؤنا.

الصّوم  

ينبع زمن الصّوم من إيماننا ومعموديّتنا الّتي تجعل منّا خليقة جديدة، وتدمجنا في الجماعة الحيّة المتمثّلة بالكنيسة، جسد المسيح السّرّيّ.  

حينما ننفتح على كلمة الله، ونصغي إليها (تعليم المسيح) نكون قد سِرنا نحو الحياة الأبديّة. الحياة الرّوحيّة "باب ضيّق" (متّى 7/ 13)، لكن بتجسيدنا كلمة الله والمواظبة على الصّلاة والتّوبة وخدمة المحبّة (الإحسان) نتقدّم فيها ونرتقي.

هذا السّعيُّ بلا شكّ هو مسالة وجوديّة. لذا حان الوقت لرفض السّلوكيّات الشّرّيرة من فكرنا ومن محيط عائلاتنا والالتزام الثّابت بإيماننا وروحانيّتنا لتترك بصماتها العميقة في حياتنا وحياة عائلاتنا وكنائسنا. ولا بدّ أن تؤثّر شهادتنا على من حولنا.

تُعدّ ممارسة الصّوم، الإمساك عن الطّعام والشّراب والعلاقات الزّوجيّة لفترة من الزّمن فرصة لتطويع غرائز الإنسان الشّرّيرة والسّيطرة عليها.  

يشدّد نرساي (القرن الخامس) على: "صوم اللّسان، وصوم الآذان، وصوم العقل، وصوم العينين من الأفكار الشّرّيرة والنّظرات الخبيثة" (منكنا، مجلد 1 ص 108). هذه تُعَدّ من مكمّلات الصّوم المادّيّ المتعلّق بالامتناع عن الطّعام، وتساعد على هضم الإيمان في جسدنا وفكرنا وروحنا.

في ظروفنا الحاليّة المعقّدة بإمكان العائلة أن تُنظّم نوع صيامِها بحسب الوضع الّذي هي فيه، لكن المهمّ أن تلتزم بروحانيّة زمن الصّوم، أيّ الصّوم عن الرّذيلة.

من المفيد التّذكير بأنّ كرازة يسوع تمَحورَت حول "التّوبة والتّغيير". يقدّم لنا الإنجيل يسوع متنقّلاً من مكان إلى آخر مبشّرًا بكلمة الله، وداعيًا النّاس إلى الإنصات والانجذاب إليها والدّخول إلى حياة جديدة عِبر التّوبة والتّغيير. كان يكرّر في كرازته: "تُوبوا، قدِ اقتَرَبَ مَلكوتُ السَّمَوات" (مرقس 1/ 15) و"اصنعوا ثمارًا تليق بالتّوبة"  (متّى 3/ 8).

الصّوم قبل أيّ شيء هو قبول كلمة الله بقلب منفتح ومصغٍ، وعيشها في تفاصيل الحياة اليوميّة: "من كان من الله، سمع كلام الله" (يوحنّا 8/ 47) و"إذا ثبتّم في كلامي صرتم حقًّا تلاميذي" (يوحنّا 8/ 31). و"ليس بالخُبز وحدَه يحيا الإنسان، بل بكلِّ كلمةٍ تخرج من فم الله" (متّى 4/ 4). كلمته عندما تدخل قلبنا تحفّزنا على التّوبة (التّطهير الدّاخليّ) وتوجّه حياتنا لنعيش في النّور الّذي يمنحه حضور الله: "كلمتك مصباحٌ لخطاي ونورٌ لسبيلي" (مزمور 119/ 105).

كيف العبور إلى الطّابع اللّاهوتيّ والرّوحيّ للصّوم؟

1. عِبر دراسة كلمة الله، بقلب طيّب وشوق، والتّعمّق فيها، واكتشاف بلاغاتها، ومشاركة الآخرين فيما اكتشفناه. وكما قال فيليبّس لنثنائيل: "لقد وجدناه تعال وانظر" (يوحنّا 1/ 45)، علينا أن ندعو الآخرين: أولادنا أقرباءنا، أصدقاءنا وجيراننا إلى الانضمام إلينا ومعرفة ما اكتشفناه وعشناه لأنّنا بهذا نكون قد سِرنا على خطى الرّسل الّذين يعلّمون ما تعلّموه وعاشوه.

يرسم ابراهيم النّثفري طريقة عمليّة دقيقة لقراءة الكتاب المقدّس: "اجمع أوّلاً أفكارك، وطهّر قلبك من كلّ اعتبار غريب. وعندما تكون مستعدًّا تمامًا، ادخل إلى أعماق قلبك، واشعل بزيتِ الإيمان سراجَ عقلك، فيضيء في هيكل "إنسانك الباطن"، واُشْدِد حقوَي ضميرك بنار الحبّ. لا تقرأ لمجرّد القراءة، إنّما اقرأ حتّى تفهم. لا تقرأ وفكرك قلق. لا تقرأ للمتعة. لا تقرأ من باب الفضول، بل اقرأ جملة بعد جملة، وحلّلها واكتشف معناها" (ساكو، آباؤنا السّريان ص 253-254).

2. عِبر المواظبة على الصّلاة. من دون الصّلاة لا فائدة من أن نكون مسيحيّين، ولا نستطيع الدّخول في علاقة وجدانيّة مع الله. فالصّلاة من فعل وَصَلَ– صِلة. مسيرة المؤمن مطبوعة بالصّلاة، لأنّ الإيمان يقود إلى الصّلاة. من لا يصلّي لا يفهم الإيمان. الصّلاة لا تنفصل عن الحبّ، ومن يعرف معنى الحبّ، هو وحده يقدر أن يصلّي، لا بشفتيه فحسب، بل بكلِّ كيانه. الصّلاة تعني أنّ الله حاضرٌ في حياتنا. لأنّها علاقة حيّة وشركة روحيّة مع الله، بعيدًا عن اعتبارها واجبًا وفرضًا علينا. يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ (347- 407):  "ليس هناك ما يُضاهي الصّلاة. إنّها تجعل مستطاعًا ما هو مستحيلٌ، وسهلاً ما هو عسيرٌ. يستحيل لمن يصلّي أن يرتكب الخطيئة" (الباترولوجيا اليونانيّة PG 54.666). الصّلاة ليست بحثًا لاهوتيًّا، بل الصّلاة تركّز على من ننتظر. وهنا أؤكّد على المشاركة في القدّاس وتناول القربان لاستمرار بقائنا مع يسوع والسّير نحو الحياة الأبديّة منذ الآن.

3. عِبر التّوبة. التّوبة Metanoia الّتي تعنيان تُدير وجهك عن الماضي المحزن، وتتوجّه إلى أفقٍ جديد. التّوبة في الإنجيل تعني الانتماء إلى يسوع والتّتلمذ له، عبر الاهتداء الدّائم بالإقرار بالخطايا وإصلاح الذّات، ومغفرة زلّات الآخرين ومصالحتهم. المصالحة هي في قلب التّوبة.

من المؤسف أنَّ ممارسةَ التّوبة تمرّ حاليًّا بأزمة، بسبب الجهل، وحالة اللّاوعي بالخطيئة. التّوبة والاعتراف بخطايانا تساعدنا على تجاوز ضعفنا، وتطهير ذاتنا، وتمنحنا الفرصة للعودة إلى البيت الأبويّ (الابن الشّاطر، لوقا فصل 15)، والمضيّ نحو الأفضل.  

يصف اسحق النّينويّ (القرن السّابع) التّوبة قائلاً: "إنّ التّوبة اُم الحياة. وهي تفتح لنا بابَها، بالهرب من كلِّ شيء. والنّعمة الّتي فقدناها بعد العماد بالسّيرة المتراخية، تُجدّدها التّوبة فينا بتمييزات العقل. لقد لبسنا المسيح من الماء والرّوح، ولم نشعر بمجده. بالتّوبة ندخل إلى نعيمه، بمعرفة التّمييزات الّتي تظهر فينا. ومن حُرم من التّوبة، حُرم من النّعيم العتيد" (الطّريقة ص 347).  

وينصح ابراهيم النّثفري إلا يستسلم الرّوحانيّ لليأس عندما يخطأ، فالتّوبة علاجٌ: "لا ترتبك إذا هاجمتك الشّهوات الطّبيعيّة، فهي ضيوف الجسد تأتي اليه. وإن حصل لك أن سقطتَ في لحظة ما، فلا تيأس، إذ ستجد العلاج في التّوبة. إنّ النّعمة تغطّي كلّ فشل شرط ألّا تستسلم للخصم"  (آباؤنا السّريان ص 250).  

4. عبر محبّة الفقراء – الصّدقة. الصّوم هو زمن الصّدقة الّتي هي ركن أساسيّ له. يقول يسوع: "أعطوا تعطوا"  (لوقا6/ 38)، أيّ إذا أعطيتم الرّبّ يعطيكم.  

الصّوم مناسبة لمساعدة المحتاجين بما وفّرناه بصيامنا. يقول إشعيا: "أَلَيسَ الصَّومُ الَّذي فَضَّلتُه هو أَن تَكسِرَ للجائِعِ خُبزَكَ وأَن تُدخِلَ البائسينَ المَطْرودينَ بَيتَكَ وإذا رَأَيتَ العُرْيانَ أن تَكسُوَه وأَن لا تَتَوارى عن لَحمِكَ؟ حينَئِذٍ يَبزُغُ كالفَجرِ نورُكَ ويَندَبُ جُرحُكَ سَريعاً ويَسيرُ بِرُّكَ أَمامَكَ ومَجدُ الرَّبِّ يَجمعُ شَملَكَ" (إشعيا 58/ 6-8). يؤكّد يسوع على أنّ دينونتا تعتمد على محبّتنا:

"تَعالَوا، يا مَن بارَكَهم أَبي، فرِثوا المَلكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم: لأَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريبًا فآويتُموني، وعُريانًا فَكسَوتُموني، ومَريضًا فعُدتُموني، وسَجينًا فجِئتُم إِلَيَّ". فيُجيبُه الأَبرار: "يا رَبّ، متى رأَيناكَ جائعًا فأَطعَمْناك أَو عَطشانَ فسَقيناك؟ ومتى رأَيناكَ غريبًا فآويناك أَو عُريانًا فكَسَوناك؟ ومتى رَأَيناكَ مريضًا أَو سَجينًا فجِئنا إِلَيكَ؟" فيُجيبُهُمُ المَلِك: "الحَقَّ أَقولُ لَكم: كُلَّما صَنعتُم شَيئًا مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُمو ه" (متّى 25/ 35-40). بمعنى آخر يجب أن تصبح محبّتنا مُنصَبّة على إخوتنا.

ماذا نفعل عمليًّا لمساعدة الفقراء

مساعدة الفقراء واجب مقدّس خصوصًا في الأزمة الاقتصاديّة العالميّة والعراقيّة الّتي نعيشها. وأيضًا في ظلّ الزّلزال الرّهيب الّذي ضرب تركيا وسوريا وخَلّف آلاف الموتى والجرحى ودمّر آلاف المباني. أقترح أن يوضع صندوق خاصّ في كلّ رعيّة تحت اسم: (صندوق الصّوم لمساعدة الأخوة المحتاجين).

إليكم بعض الأفكار … وبإمكانكم اكتشاف مجالات أخرى:

• الإمتناع عن تناول اللّحم أو السّمك في الأسبوع الأوّل والأخير ووضع ما وفّرناه في صندوق الصّوم. ملاحظة: يوم الأحد ليس من أيّام الصّوم بحسب ليتورجيّتنا.

• الإمتناع عن التّدخين وشرب الكحول خلال الصّوم، وإعطاء المبالغ الّتي نصرفها عليها لمساعدة الفقراء.

• الإمتناع عن تناول الفاكهة بين يوم ويوم

الإمتناع عن المكياج والاكتفاء بالجمال الطّبيعيّ وإعطاء المال للفقراء.

 

أهمّيّة التّمسّك بهويّتنا الكلدانيّة

الكلدان في كلّ مكان بأمسّ الحاجة إلى التّوعية والتّمسّك بكلدانيّتهم بعد فترة اللّامبالاة والتّشتّت والتّمزّق. الصّوم هو فرصة مهمّة للتّحوّل والعودة إلى هويّتنا المسيحيّة الكلدانيّة الكاثوليكيّة والاعتزاز بقوميّتنا، أيّ إلى أن نعيش إيماننا والتزاماتنا الإنسانيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة على مثال قدّيسينا وشهدائنا. هذه العودة إلى الينابيع الصّافية تتطلّب قراءة لتاريخنا وتراثنا الرّوحيّ واللّيتورجيّ، قراءة مُعمّقة لاستخلاص العِبر لحياتنا اليوميّة، فالمستقبل تصنعه تراكمات ما تعلّمناه في كلّ الأزمنة.  

وبهذه المناسبة أدعو الجميع وخصوصًا كهنتنا وشبابنا وشابّاتنا إلى دراسة تاريخ الكلدان، وكتابات الآباء اللّاهوتيّين والرّوحانيّين العِظام والتّعمّق في معاني طقوسنا بانفتاح ومن دون التّقوقع، والحفاظ على خصوصيّة بلداتنا ولغتنا. واطلب من أساقفتنا الأجلّاء تشجيعهم ومتابعتهم.

على الكلدان الّذين تركوا أمّتهم أن يعودوا إليها، ويبنوا بيتهم الكلدانيّ بقوّة ويعدّوا الحاضر والمستقبل بثقة. عليهم أن يرفضوا التّسمية المركّبة كلدانيّ سريانيّ آشوريّ!!! لأنّها مزج هجين يقصد بها اللّاهويّة! كما أدعوهم إلى التّعاون مع السّريان والآشوريّين والأرمن لتقوية الحضور المسيحيّ، باحترام الخصوصيّات والتّضامن الأخويّ من دون اقتناص أو إلغاء، في سبيل تحقيق الخير العامّ للجميع.

تقييم ختاميّ

أخيرًا حيث يكون السّلام والأخوّة والمحبّة والفرح والابتعاد عن كلّ أشكال الرّذيلة، نكون قد صمنا، ويكون الله قد ملك في داخلنا".